حين هبطت بنا الطائرة في مطار "إسطنبول" صباح الأربعاء الماضي، أعددت نفسي لمشقة الوصول إلى مدينة "بولو" التي تبعد حوالي 300كم عن إسطنبول، وذلك بسبب ما تابعته سلفًا عن مظاهرات العلمانيين التي تتمركز في "إسطنبول" وتنتشر في مدن "تركيا" … ولكن الواقع كان مختلفًا تمامًا، ووجدت الحياة تسير بطبيعتها، بل ويتحدث الناس عن الإعلام المتحامل، ولم تسلم "CNN" من الاتهام، حيث نقلت جانبًا من مظاهرة تأييد "أردوغان" باعتبارها مظاهرة العلمانيين المعارضين!!
وفي يوم الخميس انتظرتنا مفاجأة كبيرة حيث نجحت المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" في الضغط على "الاتحاد الأوروبي" لتأجيل مفاوضات انضمام "تركيا" إليه أربعة أشهر جديدة، في الوقت الذي "قبُلت" فيه "كرواتيا" المسيحية التي بدأت المفاوضات في عام 2005 وهو نفس التوقيت الذي بدأت "تركيا" فيه مفاوضاتها.
وكما لا يعبأ العلمانيون في تركيا بخسائر داخلية تجاوزت المائة مليون يورو؛ كذلك لا يكترثون بهذا الضرر الجسيم الذي يوقعونه بوطنهم بحرمانه من الاستفادة من مزايا الانضمام (للعالم ا?ول).
كذلك نجد حال "العلمانيين" في بلادنا، بل إن" المعارضة" عندنا ضُبطت متلبسة وهي تُجري محادثات مع أطراف دولية استهدفت منع أي استثمارات أو مساعدات خارجية لخنق النظام وإسقاطه، رغم أن الضرر يقع على المواطن وليس على السلطة، ناهيك عن ممارسات العنف والقتل والترويع ونشر الشائعات وافتعال ا?زمات، ورفضوا أيادي التوافق الممدودة لهم، واعتبروا أنه لا توافق إلا بخضوع "الرئيس" ?ملاءاتهم، حتى ولو عاد بنا الزمن للمربع صفر.
وإذا كانت التصريحات الرافضة للنظام قد بدت صريحة على أفواه قيادات "المعارضة"، فإن الذي يجري على ألسنة أنصار "الرئيس" أن مشكلة المعارضة هي (الإسلام) نفسه ودللوا على ذلك بفيديوهات تؤكد هذا العداء وانتشرت هذه الفيديوهات بلا إنكار من "المعارضة".
كذلك يرى أنصار "الريئس" أن للمعارضة مشكلة مع (استقلال القرار المصري)، ودللوا على ذلك بهذه المحاولات المستميتة لشيطنة "حماس" التي تقود المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، باعتبار أن تدمير "حماس" يعني حل قضية "فلسطين" طبقًا للرؤية الصهيونية، كما أن انهيار مقاومة "حماس" تعني تهديد "مصر" من بوابتها الشرقية وخضوعها للقرار الأمريكي- الصهيوني من جديد.
وهنا في "تركيا" تكاد ترى إجماعًا من المحللين السياسيين على أن "مظاهرات تقسيم" هي أداة استخدمتها "ألمانيا" للإضرار "بتركيا"، لأن المشكلة تكمن في عدم تصالح السياسيين الألمان مع حقوق المسلمين في العالم، ويرى محللون كُثر أن انضمام دولة مسلمة بحجم تركيا (75 مليون نسمة) سيرفع نسبة "الإسلام" في "الاتحاد الأوروبي" إلى (%20)، وسيحول الدول ذات التعداد الإسلامي الصغير في "الاتحاد" (مثل
جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة) سيجعلها أكثر تأثيرًا على صناعة القرار، وهذا ما عبر عنه "مفتي البوسنة" حين قال "إن انضمام تركيا لا شك سيمنحنا تأمينًا كبيرًا لأوضاعنا".
وكما يستخدم ملف "المعارضة" في "مصر" لمحاولات خنقها سواء من بلاد عربية تحرص على أن يكون لها الكلمة الأولى بالمنطقة.. أو من الكيان الصهيوني، وذلك بتوقير قاعدة انطلاق في "الإمارات" وتوفير ملاذ آمن وتمويل بلا حساب، كذلك فإن الخارجية التركية أعلنت عن غضبها وذكرت أن "المستشارة ميركل" تستخدم الملف التركي في الانتخابات لتظهر به كحامية للعرين الأوروبي، مما دعا بالحكومة الألمانية أن تستدعي السفير التركي وتبلغه اعتراضها على هذه الإهانات التركية، فقامت الحكومة التركية بالرد فاستدعت السفير الألماني وأبلغته رفضها للموقف الألماني.
وكما يلوح في الأفق المصري أن الأمور تسير في اتجاه احتشاد العلمانية بكل أجنحتها ضد الإسلاميين، ويعتبر الكثيرون الآن أن القضية تقترب لتكون ضد "الإسلام" نفسه، ولكن التعبير السياسي عن هذا الموقف يكون بصيغة رفض حكم "الإخوان"، ورغم أن" المعارضة" تستدعي المشكلات الداخلية لتؤكد براءتها من تهمة رفض "الإسلام"، ولكن يبدو أن القريبين من الشأن السياسي المصري بدأت تتشكل لهم قناعة أن القضية فعلاً هي "الإسلام". كذلك فقد استدعى المجتمع التركي تصريحات الرئيس الفرنسي الأسبق "جيسكار ديسنان" حين أعلن بوضوح أن "الاتحاد الأوروبي" هو اتحاد للمسيحيين ولن نسمح بدخول المسلمين فيه".. وتذكر الأتراك أيضًا كيف حاول الساسة وضع وصف (مسيحي) في الميثاق الأساسي "للاتحاد الأوروبي"، ولكن الشعوب رفضت ذلك.
لقد خطى (أردوغان) 3 خطوات مهمة، وهي تحييد الجيش والقضاء ثم ضرب تنظيم "أرجنكون" العلماني المتواطئ لاستعادة الحكم من "الإسلاميين" الأتراك.
وكذلك فإن (د. مرسي) قد حيد "الجيش" وأخذ خطوات مهمة بشأن "القضاء" ستعتبر بشائر عما قريب بمشيئة الله، وكان ينقصه توجيه ضربة موجعة ثم حاسمة ضد تنظيم (نظام مبارك)، وفي خطبته الأربعاء الماضي أظهر الرئيس بقراراته أنه مستعد لهذه الخطوة وبدأ فيها بجدية.
وإذا اكتملت الصورة هكذا فإن مظاهرات 30/6-كمظاهرات تقسيم- لن تكون الحدث الفارق في هذه المرحلة بقدر ما ستكون تعبيرًا عن حجم التحديات التي تواجهها الدولة المصرية.
في "تركيا" هناك معارضون حقيقيون وهناك أيضًا أخطاء حقيقية للحكم، كما في مصر، كما أن "الرئيس" على علم بوجود أخطاء وتقصير في الأداء، وأن هناك "معارضة مخلصة" واختلافها جاد.. ولكن كما اختلطت الأمور في "تركيا" وغلب التيار العلماني التآمري على المشهد، كذلك في "مصر"، لم يعد غير المدقق يستطيع أن يفرق بين المعارضة الجادة وبين المتآمرين؛ حيث انغمس الجميع في موجة هادرة ضد "الرئيس"، ولكل فصيل حساباته.
ونحن نظن أن الخطوات الحاسمة في اتجاهات (التطهير والأمن والاقتصاد)، ستحدث فرزًا يظهر المعارض المخلص من المتآمر، ويومها سيهدأ غضب "المعارضة الجادة" التي يزعجها- ويزعجنا معها- أن توصف أنها ضد "الإسلام".
والحقيقة أنها فعلاً ليست ضد "الإسلام"، ولكن اللحظة الراهنة لم تجعل الفرز سهلاً خاصة مع وضوح التماسك الشديد بين أهداف الضغوط الخارجية وأهداف فلول النظام السابق.
هنا.. ينبغي أن نذكر الجميع أن المعركة كبيرة بحجم بلد كبير "كمصر"، وأن السؤال الدائم عن دور "الجيش" هو سؤال الخائفين، وهو في غير موضعه، فالمعركة متشعبة والقريبون من "الرئيس"- ومنهم الجيش- يدركون حجمها ويطمئنون ?دارته المتوازنة للأمور.
وكما أرسل "الرئيس" رسالته للجميع بتكاتف مؤسسات الدولة مع الشرعية ومصلحة الوطن، فإن على أنصار "الرئيس" أن يعلموا أن طورًا جديدًا في المعركة قد بدأ منذ الأربعاء الماضي.. وأن الصبر على المتآمرين قد بلغ مداه وحانت لحظة التطهير الشامل وتمكين شباب الثورة.
وعليهم أن يستلهموا كل طاقات الجهد مع أبناء الوطن، مستندين إلى يقين بأن النصر مع الصبر وأن الله لا يصلح عمل المفسدين.
-----------------