كان الشباب اليمني الذي انطلق في ثورة الـ11 من فبراير يحمل أمالاً بقيام دولة مدنية يقف الجميع فيها أمام القانون تسود فيها قيم الحرية والعدل والمساواة , شاركت كل فئات الشعب في الثورة , كان دور القبيلة لافتاً حيث أعلنت أغلب القبائل وعلى رأسها قبيلة حاشد أكبر قبائل اليمن تأييدها لثورة الشباب ولم يبق مع المخلوع علي صالح الا بعض القبائل التي ظل ينفق عليها طيلة فترة حكمه , ثارت مخاوف بعض الثوارمن عودة القبيلة للمارسة السياسية عبر الثورة وأن انضمامهم للثورة لم يكن ايماناً منهم بأهدافها بقدر ما هو هروباً الى الأمام بعد تيقنهم من نجاح الثورة وسقوط نظام صالح , هذه المخاوف جعلت بعض الشباب يطالب بإلغاء القبيلة والتخلص من المشائخ الذين أفسدوا السياسة كظمان لنجاح الثورة وقيام الدولة المدنية التي يحلمون بها
كان لمخاوف الشباب ما يبررها نتيجة لتداخل دور القبيلة والدولة وظهور شيوخ القبائل يجوبون المدن بمرافقيهم المدججين بالسلاح ولا يستطيع أحد مساءلتهم عما يفعلونه , فقد اعتمد علي صالح في حكمه طيلة 33 عاماً على شيوخ القبائل الذين ظل يدعمهم بالمال والسلاح للسيطرة على الشعب والتمكين للعائلة ومن كان يرفض الخضوع والتبعية فإنه يكسر عن طريق شخص اخر من القبيلة يتم دعمه بالمال والسلاح من اجل اخضاع القبيلة لتدخل تحت عباءة الحكم العائلي , فقد قامت الكثير من الحروب بين القبائل بدعم من نظام صالح , بل مكن القبائل من النفوذ في مؤسسات الدولة مما جعل القبيلة تتحكم بالسياسة أكثر من الساسة أنفسهم وهذا ما أضر بسمعة القبيلة وجعلها في موقع المتهم أمام الشباب الثائر الساعي الى الدولة المدنية .
لكن تاريخ القبيلة في اليمن ليس بتلك الصورة التي عكسها نظام صالح العائلي فالمعروف عن اليمن أنها عبارة عن تجمع لمجموعة من القبائل العربية القحطانية التي أسست لقيام الحضارات اليمنية القديمة كـ سبأ وقتبان وأوسان ولم تكن ضد الدولة المدنية يوماً فقد وقفت القبائل برجالها وسلاحها ضد الإمامة في ثورة 48 وثورة 62 وثورة 63 وفي أزمة حصار السبعين يوماً لصنعاء وقدمت قادتها شهداء دفاعاً عن الجمهورية وأبرزهم حميد الأحمر عم المرحوم عبدالله بن حسين الأحمر , ظلت القبيلة تقاوم المشاريع السلالية والعائلية ( مع أننا لا نعفي حاشد من مسؤوليتها في التمكين لصالح ) الى أن جاءت ثورة الشباب 2011م فوقفت القبيلة بكل امكانياتها مع ثورة الشباب ودافعت عنهم أمام جيش صالح في كلاً من نهم وأرحب وتعز , فأعلن صالح الحرب على أبناء الشيخ الأحمر في الحصبة بسبب موقفهم في الثورة ضده لكنه عجز عن استئصالهم , واليوم تقف القبائل وعلى رأسها حاشد بقيادة أبناء الأحمر في وجه مليشيات الحوثي التي تتوسع في محافظات مأرب وحجة وعمران وصنعاء من اجل اعادة الإمامة السلالية التي اسقطتها ثورة 26 سبتمبر 1962م
لكن الغريب أن كثيراً من الثوار نسوا كل محاسن القبيلة ونسوا كل تضحيات الـ الاحمر للدفاع عن الجمهورية بل نسوا مواقفهم من ثورة 11فبراير ودفاعهم عن شبابها أمام ترسانة صالح العسكرية , ولم يتذكروا الا ما أفرغة إعلام صالح في أسماعهم من كره وحقد وأكاذيب على أبناء الأحمر فانطلقوا يتحدثون عن سقوط أبناء الاحمر أمام زحف الحوثيين ويستبشرون بانتها عهد القبيلة ونسي هؤلاء الثوار أن الحوثيين لا يؤمنون بالجمهورية فضلاً عن إيمانهم بالدولة المدنية , واذا كان أبناء الاحمر يسعون الى السلطة كغيرهم من اليمنيين فان الحوثيين يسعون الى السلطة كحق مكتسب لا يمكن ان يشاركهم أحد فيه , ومن حاول أن ينصف أبناء الأحمر تحدث عن أن الحرب القائمة هي " حرب الظالمين بالظالمين " ونسي هؤلاء الثوار أنهم يقفون مع المخلوع صالح في خندق واحد حيث ظهر وهو يبتهج بإحراق الحوثيين لمنزل الشيخ الأحمر , ألم يكن من باب أولى أن يقف الثوار في صف أبناء الأحمر نظير وقوفهم مع الثوار في مواجهة صالح ولو من باب رد الجميل .
واذا أردنا أن نزيل مخاوف البعض من القبيلة : فإننا نعود الى ما يصرح به شيوخ القبائل أنفسهم من أنهم لا يسعون الى الحصول على مناصب أو مكاسب سياسية , بل واثبته الواقع حيث لا يوجد أياً من هؤلاء الشيوخ في أي منصب تنفيذي , وأعلنوا أنهم لن يكونوا عائقاً أمام قيام دولة مدنية بل سيدعمونها , لأنها ربما تمنحهم حرية الحركة والتنقل وتجعلهم يعيشون كغيرهم بصورة طبيعية بعيدا عن المرافقين والمواكب , فقد ذكر حسين الأحمر: انه لا يشعر بالطمأنينة والاستقلالية الا حينما يسافر خارج اليمن , وما يجعلنا نطمئن الى القبيلة في اليمن هو أن القبيلة شاركت في الحوار الوطني وكان صادق الأحمر شيخ مشائخ حاشد عضو لجنة صعدة برئاسة امرأة ! أليس هذا موقفاً مدنياً .
كذلك ان القبائل لا تمثل مذهب أو طائفة أو امتداد لسلالة ترى أنها أعلى درجة من الأخرين كشعب الله المختار , وأن قادة هذه القبائل هم أعضاء في أحزاب سياسية مدنية يؤمنون بمبادئها وأهدافها ولا يمثلون قبائلهم , بل وجدنا أن شيوخ القبائل يحملون المؤهلات العلمية والشهادات العليا مما يعني أنهم لا يحملون عادات وتقاليد غير حضارية أو عداءً للدولة المدنية وسيادة القانون بل سيكونون أول من يلتزم به
اذاً : كيف نستطيع أن نوفق بين القبيلة كمكون أساسي في تركيبة المجتمع اليمني وبناء الدولة المدنية التي خرجنا من أجلها ؟
الجواب : في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم , عندما وصل الى المدينة المنورة مهاجراً من مكة وجد فيها مجتمعاً قبائلياً متناحراً مفككاً تقوده القبيلة في كل الشؤون السياسية والعسكرية والاجتماعية , كان النبي (صلى الله عليه وسلم ) حينها يسعى لإقامة دولة النظام والقانون والعدل والمساواة , كان يعلم أن هذه المبادئ التي يحملها تتناقض تماماً مع عادات وسلوكيات القبيلة أنذاك , فهل عمل (صلى الله عليه وسلم ) على الغاء القبيلة أو محاربتها ؟ الجواب : كلا
لكنه أعاد القبيلة الى وضعها الطبيعي ووظيفتها الأساسية وهو الجانب الاجتماعي كما قال تعالى في كتابه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ? إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) وترك الجانب السياسي والعسكري للدولة وبهذا التصرف الحكيم استطاع (صلى الله عليه وسلم ) المحافظة على القبيلة وكسب دعمها لمشروع الدولة ومساعدة الدولة في تنظيم ابنائها ودعم الجيش بالأفراد والاموال والسلاح وبدلاً من أن تقف القبيلة عائقاً أمام اقامة الدولة جعلها النبي (صلى الله عليه وسلم ) تساند الدولة المدنية وتدعم سيادة القانون على الجميع
وهذا ما نحتاجه اليوم , ليس محاولة إلغاء القبيلة أو إقصاء أبنائها إنما اعادتها الى دورها الطبيعي في رسالتها الاجتماعية والاخلاقية من التكافل والتربية وحل النزاعات والقضاء على الثارات التي زرعها نظام صالح وتقوم الدولة ببناء مؤسساتها المدنية القائمة على العدل والمساواة امام القانون ومن كان من أبناء القبائل قادراً على تحمل المسؤولية مؤهلاً فليقف مع الجميع أمام القانون دون اقصاء أو تهميش حينها نستطيع أن نبني الدولة المدنية دون أن نلغي او نستعدي القبيلة بل نستطيع أن نجعلها سنداً لدولة النظام والقانون وأداة من أدوات الدولة في ضبط الأمن وتطبيق القانون
من المفارقات :
*أنه لا يوجد أياً من أولاد الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر يتولى أي منصب تنفيذي في الدولة , سوى عضوية مجلس النواب وهو سلطة تشريعية منتخبة من الشعب
*لكن الحوثيون يحكمون محافظة صعدة بقوة السلاح وقانون الأمر الواقع دون أن ينتخبهم أو يفوضهم أحد من أبناء المحافظة بل ليس لهم حزب سياسي يعملون تحت رايته