في ظل ما تشهده الساحة من بروز نتوءات شوفينية، واحتجاب المشروع الوطني الجامع الذي ضاع وراء تلك النتوءات الأخذة في التعاظم والتوسع، يصبح الحديث عن الهوية ضرورياً. الهوية الجامعة أضحت كاللحاف الذي قَصُر أمام تمدد النعرات الصغيرة والمتطاولة. ذلك التهافت وراء تلك النعرات في لحظة تحولِ تاريخي تشهده المنطقة «لا أحبذ تسمية "الربيع العربي" ولا وقت للخوض في أهلية هذه التسمية»، يثير تساؤلات كثيرة حول سبب انبعاثها مجدداً بعد إذ كانت كل التصورات تؤمن باندثارها منذ منتصف القرن الماضي.
ظاهرياً يبدو مبرر «ردع المظالم التي يتعرض لها أبناء س من المناطق» السبب الذي تتحرك على ضوؤه تلك الحركات المستندة على خطاب عنصري، أضف إليه «رفض الضم والإلحاق» الذي صار شعاراً رائجاً وبكثرة يهرف به من يعرف ومن لا يعرف، فحفيد سلطان المهرة يرفعه للمطالبة بعودة سلطنة جده بحدودها التاريخية برداء إقليم له شأنه، وهنا يبدو في حالة ثأرية مع ثورة 14 أكتوبر لكونها من قضت على نفوذ عائلته وسطوتها على المنطقة إبان الاحتلال البريطاني، ومن ثم مع الجبهة القومية والحزب الاشتراكي اليمني، بل ويمتد هذا إلى طرحه هذا الشعار كرفض لوضع المهرة وسقطرى مع حضرموت كإقليم واحد! في هذه الحالة لا تعدو تبريرات حفيد سلطان المهرة عن كونها تمويهاً لطموح يرنو صوب استعادة أمجاد أجداده الضائعة كوريث لها، مستغلاً تذمر أبناء المهرة وسقطرى من النير الذي تعرضوا له خلال فترات ماضية، بالإمكان حله من خلال طرق أخرى أقل تكلفة من ناحية هذر طاقة الوشائج المجتمعية وتحافظ على الهوية الجامعة في الوقت الذي ينتشر المتربصون حولها.
بن عفرار ليس إلا نموذجاً لما طرأ على الساحة اليمنية عقب 2011، ومثله عدة حركات تحمل في مضمونها بذوراً شوفينية ضيقة للغاية لا يتسع أفقها عن مساحة قبيلة أو سلطنة أو عائلة أو فخذ أو بطن أو مذهب، هذا الطرح أيضاً يضرب في العمق المفهوم التاريخي للقضية الجنوبية والحلول التي قد تؤول إليها، بل أن وضع الإقليمين أساساً في الجنوب يفتح المجال بمصراعيه أمام تلك النزعات السلاطينية والمناطقية، والأربعة أقاليم شمالاً تساهم في تفشي نزعات طائفية وعنصرية، وما الصراع المسلح شمالاً إلا بذرة من تلك البذور. الحشد الطائفي والتكتل المناطقي كناتجان لهذا الفرز "الأقاليمي" سيسفران هما أيضاً عن متوالية نتائج كارثية..
في مجتمعات العالم، الثالث خصوصاً، لا مناص عن وجود كوامن لتلك النزعات، مهما بلغت تقدمية المشروع الذي تتبناه الأغلبية السياسية، بل أن المفارقة العجيبة تكمن في رؤية بضعة من يساريي المظهر والتنظير يحملون في بواعث توجهاتهم السياسية تلك النزعات، لكن أن تتفشى في الجسد الوطني على طريقة الخلايا والغدد السرطانية فالوضع يستدعي الضغط على مكمن سريان هذه العلة، بتكاتف جمعي يحد هذا التوسع ويوقفه مكانه، ولنعلم أن الوقوف بتخاذل أمام هذه الظاهرة لا يُفيد أحداً عدا القوى التي تمتطي أي ظاهرة تراها لتحقيق مصالحها، تلك «السلطة الحاكمة تقليدياً»، الهوية الوطنية هي وحدها من سيحافظ على متانة الوشائج الاجتماعية، أو ما تبقى منها، بعد الضربات التي تلحق بها محاولة تمزيقها، التي سيسفر تمزقها عن نزيف دم لا طائل منه عدا جر مزيد من النكبات لوطن يبدو الأن يتيماً يتنكر له من كان يدعي أبوته وأمومته.
المسئولية تقع الأن على ذوي التوجه المدني، القوى اليسارية الأصيلة، بالتشبث أكثر بالهوية الوطنية الجامعة، باللوذ بعصا الخيار السلمي والمدني كوسيلة لشق الطريق إلى مستقبل الطموحات التي تحملها جموع الشعب بالتخلص من التمييز على أسس ضيقة والانتقال الى رحاب المدنية، قد تبدو الأمور أعقد بعد مخاضات العامين الماضيين، لكن لا سبيل لنا للمضي قدماً غير التشبث بهذا الملاذ الأخير.