الحراك العقلاني المعتدل ومليونية النهوض

2014/12/02 الساعة 11:53 مساءً

الحراك السلمي الجنوبي الأصيل والمعتدل الذي عرفناه في عامي 2006 و2007، ونعتز منذئذٍ بالانتماء إليه، لم يسقط في الفعالية الأخيرة، ولا يمكن أن يسقط؛ ليس فقط لأنه أول الحركات الشعبية ومن أعظمها نبلاً وإلهاماً في تاريخنا العربي المعاصر؛ لكن أيضاً لأنه الحامل الميداني الأوفى لقضية شعبٍ أطهرَ كثيراً وأذكى من كل الرموز السياسية للفكرة الصارخة في حراكه النبيل والتي ظهر انكشافها وانكشافهم يوم 30نوفمبر الفائت واضحاً لكل ذي عينين وبصيرة. كما أنه أكثر اقتداراً مما يظنون على الاعتراف بالأخطاء وعلى الوقوف عند المحطات الفارقة والمفصلية لمراجعة مساره وتشخيصه، تحديداً لمكامن الداء والإخفاق فيه، وبالتالي معالجتها بما يكفل له النهوض والخروج من المآزق التي أوقعته فيها تلك الرموز بقصورها السياسي المشهود.

نعم؛ إنها فكرة التحرير والاستقلال والجنوب العربي هي التي تم امتحانها يوم الأحد الماضي، فسقطت في الامتحان سقوطاً لا ريب فيه لسبب بسيط برأيي لم يَلتفتْ إليه الكثيرون، وهو أنها لا تصلح عنواناً لأي حامل سياسي سلمي لقضية كبيرة عادلة كقضيتنا. فالقضية الجنوبية إنما هي "دعوى" ينبغي أن يرفعها لشعبنا وحراكه السلمي حامله السياسي أو "محاميه" الذي يمثله لدى"القاضي" الدولي لكي ينظر فيها ويحكم وفقاً للقانون والشرعية الدوليين. ويستحيل أن يقبل القضاء الدولي النظر في قضيةٍ أو "دعوى" عنوانها التحرير والاستقلال؛ فهو ما أن يقرأ مثل هذا العنوان حتى يخُطَّ على ملفها مُحِقَّاً وبمنتهى الحسم عبارة: "لا وجهَ لقبول الدعوى"؛ مما يعني خسارة قضية عادلة جداً قبل حتى النظر فيها، بسبب عجز المحامي المتوكل بها وقصوره الفادح.
أما المفهوم الوحيد الذي يمكن للحامل السياسي الحصيف، أو (المحامي) المحنك، أن يرضى بوضعه عنواناً على ملف قضيتنا لكي يقبل القاضي الدولي مبدأياً النظر في دعواها، فهو حق تقرير المصير الذي دعت إليه قوى الاعتدال ورموزها في الجنوب وحراكه منذ ثلاث سنوات، بعد تزمين انتقالي محدد ثنائي الإقليم. فرفضته رموز التطرف بقدر كبير من اللامسئولية التاريخية، مفضِّلةً أوهام شرعيتها وشعبيتها المكتسبة من تهييج جماهير الحراك واللهث وراء استرضائها. ولا تزال قوى التطرف هذه تمارس تخوين مشروع الاعتدال، أو تسفيهه بوصفه مشروعاً منقوصاً، إيهاماً للناس بأنها ستأتيهم بالمشروع التام وهي تعلم تمامَ العلم أنها لا تستطيع، ولن تستطيع، سوى أن تزيد حجم التضحيات والأخطار.

لا ينبغي على الحامل السياسي الجيد لأية قضية أن ينافقَ حاملَها الميداني بتبني شعاراته سياسياً إذا كان صادقاً حقاً مع القضية وجماهيرها، وإلا كان انكشافه للميدان حتمياً ومسألةَ وقت. ولقد كان يوم 30نوفمبر2014 هو ذلك الميقات. بناءً عليه، فإن جماهير الحراك السلمي الجنوبي لم تسقط في الفعالية الأخيرة، ولم تفشل على الإطلاق؛ فهي الحامل الميداني العظيم للقضية الجنوبية وصاحب الدعوى ومُحَرِّكُها الشعبي الناجح، وليست حاملها السياسي (أو محاميها) الفاشل الذي سقط عملياً في تلك الفعالية. المشكلة أن قادةً ميدانيين كما أسلفت نصبوا أنفسهم ورموزهم حاملاً سياسياً لقضيتنا بمجرَّد تبنيهم شعارات جماهيرها التي تلقَّنتها منهم بدءاً من 2008؛ وبالتالي فقد احتكروا شرعية تمثيلها حسبَما اعتقدوا، سذاجةً أو تذاكيا. وما يجعلني أرجح التذاكي في الغالب هو أن بعض أولئك الرموز حين يخاطب الميدان لا نسمع منه إلا صوت التحرير والاستقلال إثارةً وتكسُّباً لجماهير الحراك الصارخ دون أن يتردد في الجهر بالجنوب العربي المخالف لتاريخه؛ ولكنه حين يعمد إلى مراسلة المجتمع الدولي يحرص أحياناً على أن يضمِّن خطابه مطلب الاستفتاء وتقرير المصير.

فهل يعي هؤلاء الآن ضرورة تغليب مصلحة الجنوب على كل اعتباراتهم وأوهامهم وعُقَدِهم؟ هل يجرؤون على الاعتراف بأنهم أخطأوا حين تبعوا الميدان وانقادوا لعواطفه، بدلاً من أن يقودوه سياسياً إلى ما فيه مصلحته ولو بخلاف أهوائه؟

ربما. لكن ما أنا واثق منه هو أن الكرة الآن بملعب قوى العقلانية والاعتدال في الحراك الجنوبي، وأن ساحته الشعبية قد أصبحت مهيَّأة أكثر لسماعها وتفهُّمها إن كان لديها ما تقدمه. فمن الضرورة ملء الفراغ السياسي الذي أعاق عملية ملئه الحامل المتطرف حتى سقطت رؤيته عملياً منذ يومين كما أزعم. ولعله غدا جاهزاً لمراجعة مواقفه الآن والاستماع إلى صوت الحراك المعتدل بحيث يلتقي معه في تنسيقٍ تنظيمي متَّحد يؤمِّن الحامل السياسي الجدير بالقضية الجنوبية ويحل مشكلة قيادتها وتمثيلها، على أساس الاعتدال الذي طال ما كانت مخالفته في الجنوب سبباً للبلاء والضياع. فبذلك يمكن لفعالية نوفمبر أن تكون مليونية نهوض الحراك السلمي الجنوبي وتصويب مساره.

عدن؛ 2ديسمبر2014

* اديب ومترجم