
حسب تقرير الأمم المتحدة بعنوان الأمن الغذائي والتغذية في العالم لعام 2025 يشير إلى أن الأمن الغذائي لايزال يشكل تهديدا وجوديا يتجاوز كونه مجرد قضية إنسانية ليصبح عاملا رئيسيا في زعزعة الأمن والاستقرار السياسي والأمني.
يكشف التقرير عن تباين إقليمي حاد ومقلق إذ تشهد مناطق آسيا وأمريكا اللاتينية تتحسنا ملحوظا، بينما ارتفع الجوع بالعديد من المناطق الافريقية ليؤثر على 307 ملايين نسمة ، خصوصا أن هذه المناطق تتسم بالهشاشة والصراعات السياسية والأمنية المعقدة والمترابطة، كما ساهمت الأوضاع الاقتصادية العالمية في الزيادة من حدة الأزمة خصوصا التضخم وارتفاع الأسعار، مما يضع ضغوطا على الأنظمة السياسية، ما يجعل الجوع يغطي السخط الاجتماعي ويؤدي الى النزوح وهجرة المناخ، كما يوفر بيئة خصبة لنمو الجماعات المسلحة مما يؤكد علاقة الأمن الغذائي بالاستقرار السياسي أي العضوية المتبادلة بين نقص الغذاء وتآكل أركان الدول الافريقية واستقرارها الأمني والسياسي.
فما هو الأمن الغذائي؟
بناء على هذه الاحصائيات تتطلب معالجة إشكالية علاقة الأمن بالغذاء تحديدا دقيقا للمفاهيم الأساسية.
عرفت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة الأمن الغذائي بناء على ثلاثة أبعاد أساسية وهي: التوافر، الوصول، الاستخدام، الاستقرار.
يعرف الأمن الغذائي بأنه الحالة الديناميكية والمستدامة التي تضمن لجميع الأفراد والمجتمعات في مختلف الظروف قدرة مستمرة في الوصول المادي والاقتصادي والاجتماعي إلى الغذاء الكافي والأمن والصحي بما يضمن لهم حياة عيش نشطة وصحية.
وعليه تتوقف قوة الأمن الغذائي على درجة المرونة التي يتمتع بها السكان في مواجهة الصدمات المناخية والاقتصادية والسياسية، حيث تدار هذه المخاطر عبر آليات التكيف والاستجابة متعددة المستويات بما في ذلك مستوى الإنتاج والاستهلاك والتنويع الزراعي والتخزين وتعديل هيكل الحصص الغذائية نحو المنتجات الأرخص، أما على المستوى الاقتصادي يمكن الرفع من النشاط الغير رسمي وتحويل الأصول غير الإنتاجية إلى سيولة نقدية للحفاظ على القدرة الشرائية، لأن الأمن الغذائي لا يقتصر على وفرة السلع بل هو توازن معقد بين الإنتاج والقدرة الشرائية والآليات الاجتماعية والقدرة على إدارة المخاطر .
من خلال هذا التعريف سوف نحاول معالجة الإشكالية التالية:
كيف وإلى أي مدى يمكن أن يشكل انعدام الأمن الغذائي عاملا مضاعفا للتهديد ويقوض الاستقرار الساسي والأمني للدول الافريقية؟
قبل التطرق بعمق للموضوع لابد من الرجوع خطوة للوراء بالضبط سنة 2008 حيث كان الغذاء محور الأجندات السياسية والإعلامية الدولية والإقليمية، إذ تم تسليط الضوء على هشاشة اقتصاد السوق، كأبرز دليل على العلاقة بين الأمن الغذائي والاستقرار، خصوصا أن أزمة 2008 سجلت حالة كبيرة من عدم استقرار السوق؛ حيث بلغت أسعار المواد الخام الزراعية والمشتقات الطاقية مستويات قياسية.
أدى هذا الخلل العالمي في العرض والطلب على السلع الغذائية الأساسية إلى تشكيل أزمة الغذاء خصوصا لدى الأسر الفقيرة، ونظرا لكون الغذاء يشكل الحصة الأكبر من الانفاق فإن الارتفاع الحاد في الأسعار أدى مباشرة إلى إضعاف القدرة الشرائية، وبالتالي دفع ملايين الافراد إلى حالة من انعدام الأمن الغذائي الحاد مما أسفر عن اندلاع إضرابات الخبز وثورات الجوع حول العالم، مما يدل على أن الاستقرار السياسي مرتبط باستقرار الأسعار .
تقدم النظريات التي تفسر أزمة الغذاء على سبيل المثال أزمة 2008 إطارا قويا لفهم العلاقة السببية بين الأمن الغذائي والسياسي والاستقرار بإفريقيا.
الصدمات الخارجية: حيث يرجع السبب لمشاكل الغذاء إلى ظروف قاهرة
خارجة عن إرادة الدول كالتقلبات المناخية الجفاف والفيضانات، والتضارب والمنافسة من أجل الربح بالأسواق العالمية
هشاشة الاستراتيجيات الفلاحية: حيث تكون الأنظمة المحلية فاشلة في التخزين الاستراتيجي وضعف الإنتاج والاعتماد على الاستيراد، أي عدم توفر نظام فلاحي مرن يتكيف مع الظروف الاقتصادية والمناخية، هذا الضعف يترجم الصدمة إلى أزمة حقيقية تؤدي إلى النزوح والصراع على الموارد المحدودة، وتجعل الناس عرضة للتجنيد من قبل الجماعات المسلحة.
ترابط التحديات: أزمة الغداء ليست نتاجا عن المتغيرات المناخية فقط، بل ترتبط ارتباطا وثيقا بمجموعة من التحديات الاقتصادية؛ كفقر الأسر، الجفاف... حيث لا يوجد سبب واحد لتحديد أصل الأزمة، بل هي نتيجة تفاعل معقد بين مجموعة من العوامل في نفس الوقت.
ففي القارة الافريقية لا يكمن الخطر الأمني في نقص الغذاء بحد ذاته بقدر ما يكمن في تضافر مثلث العوامل فانعدام الأمن الغذائي هو نتيجة نقص الموارد وانهيار شبكات التمديد والربط التجاري، وأزمة السيولة النقدية، هذه العوامل تؤدي إلى انتفاضة الجوع، وعليه تتحول هذه الانتفاضات من مجرد مطالب اجتماعية الى تعبير عن فقدان الثقة لدى الجماهير في المؤسسات، إن عدم قدرة الدول على ضمان الحق الأساسي في الغذاء يترجم مباشرة إلى تآكل شرعية الدولة، مما يمثل تهديدا مباشرا لاستقرارها السياسي والأمني.
لذلك فأزمة الغذاء ليست قضية تنموية فقط، بل هي أساس الأمن القومي، خصوصا أن المجاعة تؤدي إلى تعبئة شعبية سواء بشكل عفوي أو مقصود مما يؤدي إلى الإطاحة بالأنظمة العاجزة عن ضمان نظام فلاحي قوي ومرن مقاوم لصدمات.
علاقة الأمن بالغذاء: الربيع العربي نموذجا2010 -2011
كان ارتفاع أسعار القمح محفزا رئيسيا للربيع العربي عام 2011، مما أدى إلى تفاقم التوترات الاجتماعية القائمة على ارتفاع أسعار الخبز باعتباره مكون أساسي للقوت اليومي، مما ولد شعورا بالسخط في ظروف معيشية متردية ما أشعل فتيل احتجاجات شعبية انتشرت كالنار في الهشيم في جميع البلدان العربية.
حسب منظمة الأغدية والزراعة وصل مؤشر أسعار الغذاء إلى مستويات قياسية خاصة بالنسبة للحبوب مما جعل الخبز أكثر تكلفة.
فالقمح سلاح استراتيجي ونقطة ضعف للأمن الافريقي، فلا يمكن لنا تحليل العلاقة بين الأمن الغذائي والاستقرار السياسي دون تسليط الضوء على الدور المحوري للقمح الذي يعد مادة خام زراعية استراتيجية تلعب دورا أساسيا في التوازنات الدولية، فالقمح يشكل الغذاء الأساسي ل 35 % من السكان بالعالم، كما أن الاعتماد عليه يتزايد حيث من المتوقع أن يصل الإنتاج إلى 900 مليون طن بحلول 2025 .
وفي سياق القارة الافريقية يتحول الاعتماد المتزايد على القمح إلى نقط ضعف هيكلية تخدم موضوع تحليلينا:
التبعية الاقتصادية والسياسية: تعتمد العديد من الدول الإفريقية خصوصا شمال إفريقيا ومنطقة القرن الإفريقي، بشكل كبير على استيراد القمح من مناطق جغرافية محددة مثل منطقة البحر الأسود، وبالتالي فإن أي اضطراب في مناطق الإنتاج الرئيسية كالحرب الروسية الأوكرانية، أو أي إغلاق لمضيق تجاري يترجم بشكل فوري إلى ارتفاع الأسعار، مما يؤدي الى المساس بالقوت اليومي مما يشعل بشكل مباشر شرارة الاضطرابات الاجتماعية واحتجاجات الجوع التي تهدد الاستقرار السياسي الداخلي، وبناء على ذلك فإن هيمنة القمح كسلعة استراتيجية إلى جانب ضعف الإنتاج المحلي بسبب الجفاف والتغييرات المناخية، تجعل الأمن الغذائي القائم على القمح عرضة للصدمات الخارجية.
كيف يغدي انعدام الأمن الغذائي الصراع في الساحل؟
يركز العديد من الخبراء الأمنيين على الاستراتيجيات الأمنية لمعالجة أزمة الساحل، واعتبار الأمن الغذائي على أنه تحد إنساني أو تنموي، لكن في الآونة الأخيرة أكتسب الأمن الغذائي بعدا جيو سياسيا و أمنيا، ويعد الاعتراف الرسمي لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أهمية الاهتمام بالغذاء، فبتاريخ 29 أكتوبر 2025، عقد مجلس الأمن جلسة رفيعة المستوى تحت بند التهديدات الموجهة إلى السلام والأمن الغذائي رسميا ضمن مسؤوليات الأمن القومي والدولي، مؤكدا أن الجوع لم يعد نتيجة عرضية للصراع بل أصبح عاملا من عوامله وهذا ما يستوجب التدخل الدولي العاجل .
كما يسلط تقرير اليونيسيف الضوء على التفاقم الخطير لأزمة الغذاء في منطقة الساحل الافريقي، في مالي والنيجر وبوركينافاسو، حيث ارتفع انعدام الأمن الغذائي الحاد بنسبة 225% ومالي 91% والنيجر77%، ويؤكد التقرير أن هذه الأزمة هي نتاج تضافر الصدمات المناخية مع النزاعات المتصاعدة، التي تجبر السكان على النزوح، وتعد هذه التبعات تهديدا للتنمية البشرية، حيث من المتوقع أن يرتفع عدد الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية إلى نحو 2,9 مليون طفل مما يجعل المشاكل الأمنية تستمر مستقبلا لأن ضعف الغذاء الناتج عن تدهور المناخ وأزمة الماء سيؤثر على قطاعي الصيد والفلاحة وتربية المواشي التي تعتبر المحرك الأساسي للاقتصاد بمنطقة الساحل، مما يجعل الأطفال عرضة لمخاطر النزوح أو استدراجهم من طرف الجماعات المسلحة .
خلاصة:
الامن الغذائي تحد سيادي وهشاشة مركبة:
حاولت من خلال هذه الورقة البحثية الكشف أن الأمن الغذائي في افريقيا لم يعد يصف كتحد إنساني أو تنموي معزول، بل تحول إلى تحد سيادي يهدد الاستقرار الدولي والإقليمي، حيث العلاقة بين المناخ والأمن والغذاء هي علاقة تكاملية، إذ يعمل التغير المناخي كمضاعف لمخاطر الهشاشة في افريقيا، ويفجر صراعات محلية على الموارد، وفي نفس الوقت يترجم سوء الغذاء إلى وقود استراتيجي للجماعات المسلحة التي تستغل اليأس والجوع لتجنيد الأفراد وتوسيع النفوذ، ولعل هذا هو أبرز الأسباب التي تؤدي بهذه الجماعات إلى فرض حصار اقتصادي على العواصم لشل الحركة الاقتصادية، مما يسرع من وتيرة الانهيار الأمني.
إن الاعتراف الرسمي لمجلس الأمن بهذه العلاقة، واعتبار انعدام الغذاء عاملا من عوامل الصراع يجعل قضايا المناخ والغذاء ضمن أولويات الأمن القومي العالمي.
" لا يمكن بناء السلام والبطون جائعة، فالغذاء ليس مجرد إغاثة إنسانية، بل هو الدعامة الأساسية لبناء الاستقرار السياسي، الدولي والإقليمي وشرط أساسي لتحقيق التنمية المستدامة. "