2025/08/27
دراسة وتقرير عن الاحتلال الاماراتي للموانئ اليمنية وتعطيل الاقتصاد .

 

اصدر مركز هنا عدن للدراسات الاستراتيجية اليوم دراسة حديثة تحت عنوان  دراسة تحليلية : الموانئ اليمنية تحت النفوذ الإماراتي: عسكرة المرافئ وتعطيل الاقتصاد

تناولت برز الدور الإماراتي بوصفه الأكثر تنظيمًا واستمرارية، ليس بصفته قوة مساندة فيتحالف عسكري، وإنما كفاعل مستقل يملك رؤية استراتيجية تتجاوزاليمن إلى خرائط أوسع للبحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهنديوتحت شعار "تأمين الملاحة" و"دعم الشرعية"، تحوّلت الموانئ اليمنيةإلى نقاط تمركز عسكري مغلقة، وانزاحت وظيفتها من كونها أصولًااقتصادية وطنية إلى أذرع لوجستية في مشروع نفوذ إقليمي. 
ميناء عدن، الذي كان يمكن أن ينافس جبل علي، أُعيد إدخاله فيسبات طويل. المخا، البوابة التاريخية لباب المندب، أُغلق في وجه أهلهوأعيد توظيفه كغرفة عمليات عسكرية. منشأة بلحاف، شريان الغاز،حُبست في قمقم القاعدة العسكرية. المكلا وساحل حضرموت تحولاإلى نطاقات نفوذ أمني، والميناء في المهرة أضحى تحت رقابة مشددة. وحتى الجزر البعيدة، كسقطرى وميون، لم تسلم من إعادة الترسيمعلى خرائط المصالح الجديدة.
هذه الدراسة لا تقف عند وصف الحدث، وإنما تتعقب آلياته: كيفجرى تفريغ الموانئ من معناها الاقتصادي، وكيف تم بناء منظومةمحلية من الوكلاء تضمن استدامة السيطرة، وكيف يُعاد ترتيب الممراتالبحرية بما يخدم مصالح قوة إقليمية على حساب سيادة الدولة. كماتحاول وضع هذه الوقائع في سياقها الأوسع: مشروع إماراتي لبناء"إمبراطورية موانئ" تمتد من الخليج إلى القرن الأفريقي، يلتقي فيهالأمني بالاقتصادي، والمعلن بالمسكوت عنه.

نص التقرير 

إن قراءة المشهد اليمني من زاوية الموانئ ليست ترفًا تحليليًا، بقدر ماهو مفتاح لفهم ديناميات الصراع الراهن ومستقبله. فمن يسيطر على هذه المنافذ، يملك اليد على شريان حياة البلاد، ويستطيع، إذا شاء، أن يبقيها في حالة احتباس اقتصادي حتى تتغير موازين القوى. وهنا تكمن المعضلة: فالمسألة ليست ميناءً هنا أو جزيرةً هناك، بل بنية متكاملة من النفوذ، تستدعي تفكيكًا دقيقًا إذا أردنا تصور استعادة اليمن لسيادته البحرية والاقتصادية.
 
 
 
 
تندرج هذه الدراسة ضمن البحوث النوعية التحليلية التي تعتمد منهج دراسة الحالة المتعددة، إذ تم اختيار عدد من الموانئ اليمنية التي خضعت بدرجات متفاوتة للنفوذ الإماراتي منذ عام 2015، بهدف فهم آليات السيطرة وأثرها على البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. تقوم المقاربة على تحليل متقاطع للمصادر الميدانية والوثائقية، بما في ذلك الشهادات المحلية، والتقارير الإعلامية، والمواد البحثية المتخصصة، وصور الأقمار الصناعية، للوصول إلى قراءة شاملة تكشف الأنماط المشتركة والخصوصيات في كل حالة. وبهذا، تسعى الدراسة لتجاوز الوصف إلى تفسير الظاهرة في سياقها الإقليمي والدولي الأوسع.
في هذه الدراسة نستعرض كيف بسطت أبوظبي سيطرتها على الموانئ اليمنية منذ 2015 حتى اليوم، والأدوات العسكرية والسياسية المستخدمة، وكيف تم عسكرة الموانئ وتحويلها إلى قواعد مغلقة، إضافة إلى رصد الخسائر الاقتصادية الناتجة عن شلّ حركة الملاحة والتجارة فيها.
كما نستعرض شهادات من مسؤولين حول تأثيرات ذلك، ونحلّل أبعاد الهيمنة الإماراتية في سياق أوسع: هل تسعى أبوظبي للسيطرة على خطوط الملاحة الدولية كمشروع نفوذ إقليمي أشمل؟ 
 
 
 
 
 
ميناء عدن: تعطيل ممنهج تحت ستار التحالف
يُعد ميناء عدن أكبر الموانئ اليمنية وأحد أهم الموانئ الطبيعية في العالم، بموقع إستراتيجي على الخط الملاحي الدولي بين الشرق والغرب. لهذا الموقع الفريد، نظرت الإمارات مبكرًا إلى عدن كمنافس خطير قد يقوّض مكانة ميناء جبل علي في دبي كمركز تجاري إقليمي.
وتشير وثائق تاريخية إلى أن أبوظبي سعت منذ ما قبل الحرب إلى إبرام عقود لإدارة ميناء عدن ومن ثم تعطيله؛ فقد حصلت "موانئ دبي العالمية" عام 2008 على عقد تشغيل الميناء، لكنها جمدت تطويره. وبحلول 2012 أُلغي العقد بسبب تدهور نشاط الميناء أكثر من 57% خلال فترة إدارة الشركة الإماراتية (2009–2011) مقارنة بما قبلها. هذا التعطيل المتعمّد مثّل تمهيدًا لمطامع الإمارات في مرحلة الحرب.
مع اندلاع عاصفة الحزم 2015، شاركت الإمارات في تحرير عدن من الحوثيين، لكنها أقامت وجودًا عسكريًا مكثفًا في المدينة ومينائها تحت ذريعة دعم الشرعية. وسرعان ما أنشأت أبوظبي تشكيلات محلية موالية لها (الحزام الأمني وغيره) تولّت زمام الأمن في عدن وفي أغسطس 2019، دعمت الإمارات انقلاب قوات "المجلس الانتقالي الجنوبي" على الحكومة في عدن جواً وبحراً، مما ثبّت نفوذ وكلائها على المدينة ومرافقها. ورغم إعلان الإمارات انسحاب قواتها أواخر 2019، إلا أن الوجود الفعلي بقي عبر سيطرة المجلس الانتقالي على ميناء عدن وإقصاء السلطات الحكومية.
انعكست هذه السيطرة على تعطيل الدور الاقتصادي لميناء عدن. فالميناء الذي كان يمكن أن يكون رافعة للاقتصاد اليمني بات ورقة مساومة بيد حلفاء الإمارات. وتشير آراء خبراء اقتصاديين إلى أن الإمارات تعمدت تحجيم نشاط ميناء عدن للحفاظ على ازدهار موانئها؛ حيث سعت لفرض سيطرتها على الميناءعبر وكلائها وعدم تفعيله تجاريًا حتى "تبقى موانئ دبي وجبل علي نشطة دون منافسة". وقد أثار سعي أبوظبي مؤخرًا لإعادة إدارة ميناء عدن عبر مجموعة موانئ أبوظبي غضبًا واسعًا في الأوساط اليمنية؛ حيث تم الكشف عن مذكرة رسمية في يونيو 2024 عن لجنة وزارية تفاوض لإبرام اتفاقية شراكة مع الشركة الإماراتية. وردًا على ذلك حذّر 24 عضوًا في مجلس الشورى اليمني من "كارثة جديدة تلوح في الأفق" مؤكدين رفض أي اتفاق يمس سيادة اليمن على ميناء عدن تحت أي ذريعة. ووصف برلمانيون عودة نفوذ الإمارات إلى الميناء بأنها "مصيبة جديدة" ستفاقم أزمات الانقسام والفساد.
الخسائر الاقتصادية المباشرة جراء هذا التعطيل كبيرة وإن لم تُوثّق رسميًا بشكل كامل. لكن كمؤشر، خلال فترة إدارة موانئ دبي (2008–2012) تراجع عدد الحاويات المتداولة في عدن بأكثر من النصف، وفُقدت إيرادات ضخمة كانت متوقعة لولا هذا التراجع.
 
 
وإثر الحرب، ومع هيمنة المجلس الانتقالي، تأثر نشاط الميناء التجاري وباتت إيراداته لا تغطي حتى نفقاته التشغيلية وفق تقديرات غير رسمية، في وقت تعتمد فيه الحكومة على موانئ بديلة أقل كفاءة. ويرى مراقبون أن إعادة تفعيل ميناء عدن بكامل قدرته كان يمكن أن يدر مئات ملايين الدولارات سنويًا لخزينة الدولة، فضلاً عن خلق فرص عمل وتحسين توفر السلع. لكن ذلك تعطل بفعل الصراع على الميناء وتحويله إلى ساحة نفوذ سياسي وأمني.
 
ميناء المخا: من بوابة تاريخية إلى ثكنة مغلقة
يحتل ميناء المخا مكانة تاريخية وإستراتيجية على البحر الأحمر قرب مضيق باب المندب، وكان ثاني أكبر الموانئ اليمنية من حيث النشاط التجاري قبل الحرب. في عام 2017 تمكنت القوات الإماراتية ووكلاؤها (قوات العمالقة والمقاومة الوطنية) من استعادة المخا من أيدي الحوثيين.
ولكن بدلًا من إعادة الميناء إلى الحكومة الشرعية، احتفظت به الإمارات وحولته إلى منطقة عسكرية مغلقة بالكامل. منذ ذلك الحين، تمنع القوات الإماراتية اقتراب أي مدني أو مسؤول حكومي او حتى عسكري من الميناء الذي غدا أشبه بثكنة عسكرية تديرها قيادات إماراتية ووكلاؤها المحليون.
على مدار السنوات التالية، استخدمت أبوظبي ميناء المخا حصرًا لنقل الإمدادات العسكرية واللوجستية لقواتها وحلفائها على الساحل الغربي. وانتشرت في الميناء وحوله المعدات العسكرية الثقيلة، وأقيمت مبانٍ وعنابر جديدة لتخزين الأسلحة والمؤن.
هذا المشهد العسكري حرم سكان مدينة المخا من مورد رزق اعتادوا عليه لعقود عبر هذا الميناء التجاري الحيوي. كما حُرمت الحكومة من عوائد جمركية وتجارية كبيرة؛ إذ تُقدَّر إيرادات المخا المهدرة بنحو 12 مليار ريال يمني شهريًا كانت لتصب في خزينة الدولة لو استأنف نشاطه المدني.  
وهذا الرقم يعادل تقريبًا نحو 50 مليون دولار سنويًا وفق أسعار الصرف المتقلبة، وهي مبالغ كان يمكن أن تموّل خدمات ورواتب لمناطق ساحل تعز المحررة.
يصف مسؤول محلي في المخا الوضع قائلًا: "الميناء التاريخي تحول إلى غرفة عمليات لقوات أجنبية، وأبناء المخا ممنوعون حتى من الاقتراب من أسواره" ويتردد صدى هذه الشكوى في أحاديث الصيادين الذين فقدوا سبل عملهم بعدما مُنعوا من الرسو قرب الميناء، وأُجبر الكثير منهم على هجر المهنة أو السفر لمناطق أخرى. أحد الصيادين المحليين قال  "نحن لا نعرف مهنة غير الصيد، لكننا منذ 2017 صرنا نخشى الاقتراب من مياه المخا. خسرنا مصدر رزقنا الوحيد" – في إشارة إلى القيود البحرية المشددة حول الميناء.
جدير بالذكر أنه في الآونة الأخيرة، ومع هدوء جبهة الساحل الغربي، بدأت محاولات لإعادة بعض النشاط المدني إلى ميناء المخا بمبادرات من طارق صالح (نجل شقيق الرئيس الراحل وعضو المجلس الرئاسي) المدعوم إماراتيًا، والذي يتخذ من المخا مقرًا له. حيث أُعلن عن مشاريع لتطوير الميناء وتعميق غاطسه واستئناف تصدير المنتجات الزراعية عبره إلى دول القرن الأفريقي والخليج غير أن ذلك كان محاولة لإسكات الاصوات التي تستنكر عسكرة الميناء.
كما افتُتح مطار عسكري/مدني جديد بمحاذاة الميناء بطول مدرج 3.1 كم لتعزيز الربط اللوجستي. هذه الخطوات تُقدَّم على أنها جهود تنموية لإحياء المخا، لكنها تتم بإشراف قوات المقاومة الوطنية الموالية للإمارات وليس ضمن سلطات الحكومة المركزية. ويرى مراقبون أن أبوظبي تسعى لتحويل المخا إلى قاعدة نفوذ طويلة المدى: ميناء مطوَّع لخدمة مصالحها العسكرية والتجارية معًا، ضمن مشروع أوسع للهيمنة على المنافذ المطلة على باب المندب.
 
 
 
بعد، ان ضمنت الامارات السيطرة على على ميناء المخا وسواحل تعز ذوباب واجزاء من سواحل الحديدة كالخوخة وحيس وذلك عبر قوات وتشكيلات عسكرية تابعه لها في الولاء اتجهت الى المناطق التي تمثل العمق الاستراتيجي للسواحل والتي تتميز، بكثافة سكانية عالية وروح ثورية حيث لن تتمكن الامارات من احكام سيطرتها على هذه السواحل مالم تحتوي خطر الرفض الشعبي في الحجرية الذي يهددها وتعمل على تقييده والسيطرة عليه عبر نشر قوات وفتح معسكرات واستقدام قوى متشددة مثل كتائب ابو العباس وضخ الدعم المالي للوجهاء والمشائخ وتفخيخ المجتمع بالاسلحة ونشر الفوضى والقتل والاشتباكات بين ابناء المجتمع بحيث تصبح مناطق غير امنه يصبح فيها المجتمع منقسما وهذا من شأنه أن يؤمن توقف ميناء المخا لسنوات ويحد من مخاوف الامارات التي تخشى من هروب المستثمرين في موانئ دبي وابوظبي الى موانئ اليمن في حال استتب الأمن وسيطرت القوى الوطنية الممثلة بالشرعية على هذا الميناء
 
أبوظبي ترى في ميناء المخا خطرا يهدد موانئها
 
تواصلنا بالمهندس والخبير في عمل الموانئ الاستاذ برهان الصهيبي وسألناه مالذي، يمييز سواحل تعز ولماذا يزداد النشاط، الاماراتي يوما بعد، اخر فيها؟
فقال ان مايميزسواحل تعز قربها الشديد من خط الملاحة الدولي  ونسبة الهدؤ النسبي للامواج والذي يفتقر اليه ساحل بحر العرب فيما عدا المونئ ذات الخور الطبيعي الذي تكون فيه الامواج هادئة اضافة الى الاعاصير التي تغزو بحر العرب كبحر مفتوح على المحيط وهو ما يجعل خيارات بناء ميناء في مكان على الشريط الساحلي صعبا .. كما ان تعميق الموانى الطبيعية اصعب لاحتوائها على الصخور باعتبار اي خور تصنعة الطبيعة الصخرية
عكس الساحل التعزي الهادئ  فأغلب الساحل توجد به خيارات صنع موانئ سهله عن طريق شفط وترسيب الرمال البحر مع الاضافات البسيطة التي يمكن ان تقوم بها شركات متوسطة كما ان المساحات الصالحة لغرض الموانئ كثيرة وهو ما يجعل المنافسة مفتوحة لبناء اكثر من ميناء وكل ما يهم الشركات التي ترى في تعز واليمن هونج كونج الجديدة في حال توفر الامن والاستقرار فقط هذا ما تدركه الشركات العالمية المستثمرة لاموال فلكية في البنية التحتية لدبي التي تدرك انها لن تستعيد اموالها في حرل انتقلت مثل هذه الشركات للإستثمار  في السواحل اليمنية ولذالك تسعى الإمارات دوما لدعم الاضطرابات وتقويض اي مشروع وطني بجزء من الاموال المستثمره في دبي خير لها من ان تخسر الاستثمارات الضخمة فجأة وتعمل لتنفير الشركات العالمية الناشة في الصين وحتى في دبي ذاتها..
 
سواحل وموانئ تعز تهديد حقيقي لموانئ الامارات
تمتد سواحل تعز من باب المندب حتى حدود عدن وصولا الى حدود الحديدة وبمسافة 111 كيلوا مترمربع تقريبا وبالتالي فإنها بموقعها القريب من باب المندب يضيف لها اهمية كبيرة ومهمة حيث ان المضيق يحمي الموانئ من الامواج والرياح التي تؤثر على غيرها من الموانئ وبحسب خبراء فان وجود هذه الميزة يعطي إمكانية إنشاء أكثر من 35  ميناء صناعي على طول الساحل التعزي ما يجعل شركة دبي غير قادرة على السيطرة والفوز بكل العقود لاستثمار تلك الموانئ
 
يقول الخبير في عمل الموانى المهندس،برهان الصهيبي إن الساحل التعزي بموقعه يشبه ساحل دبي الواقع بعد مضيق هرمز  حيث تشكل المضايق ميزة لحماية الموانئ من الأمواج والعواصف التي تدهم السواحل المفتوحة على المحيطات، وهذه نقطه مشتركه بين دبي والساحل التعزي تغري بإنشاء موانئ صناعية بواسطة كاشطات الرمل من القعر وإنشاء أرصفه وكواسر أمواج صناعية معززة بالصخور لمنع تسرب الرمال بفعل حركة المد والجزر مضيفا أن ما يتفوق به الساحل التعزي عن دبي، هو قربه من خط الملاحة الدولي الأهم في العالم، وهذه ميزة إضافية تحسب لصالح الساحل التعزي وتتمثل في اختصار المسافة وما يشكله ذ لك من وفر في كلفة النقل، ما يعني انهيار دبي حال استثمار هذه الموانئ بهذه الطريقة السهلة المغرية للشركات ذات الإمكانات العادية نسبيا، مقارنة بإمبراطوريات المحيطات.
ميناء المخا التابع لمحافظة تعز والذي يبُعد ستة كيلومترات من مضيق باب المندب،  ذلك المرفأ التجاري العريق الذي كان لعقود مصدر رزق وموردُ دخلٍ هام لسكانه القاطنين على الصيد وتصدير البن والخضروات وغيرها ، بات اليوم محطّاً لمشهد مأسوي يُعبّر عن عمق التدخّل الإماراتي في الشأن اليمني.
الإمارات، المتبجّحة بمساعي “استعادة الشرعية”، أقدمت منذ عام 2017 على تحويل هذا المكان العصريّ إلى ثكنة عسكرية، تُحظر الاقتراب منه، ويُمنع عليه دوام التجار والمواطنين، تحت أنقاض صور مألوفة عن إعادة أعمار أو صيانة، بل تحوّلت مدينة المخا إلى رمز للاحتلال الخافت وغياب سيادة الدولة اليمنية  . 
الصور التي بثّتها الجزيرة، كانت شاهدةً على بناء الإمارات حوالي 66 وحدة سكنية داخل الميناء، لإيواء ما لا يقل عن خمسمئة جندي، معظمهم إماراتيون، وسُوّرت المنطقة بسور ضخم، ليُصدر عن محيط قديم من التجارة والأسماك مشهداً استعباديًا يغدو أقرب إلى قاعدة عسكرية منه إلى مسرح لإحياء النشاط الاقتصادي  .
 
وفق تقارير محلية ودولية، يتحكّم ضباط إماراتيون بهذا المرفق التاريخي، ويستخدمونه حصريًا لنقل الإمدادات العسكرية واللوجستية إلى القوات الموالية لهم في الساحل الغربي، فيما تُحرَم الحكومة الشرعية من الاستفادة من عائداته التي تُقدّر بأكثر من 12 مليار ريال يمني شهريًا، لتذهب موارد الشعب إلى جيوب داعمي هذه القوات لا إلى جدران الجمهورية التي تُعلن الجمهورية اليمنية انتسابها إليها  .
 
السكان المحليّون يرفعون شهاداتٍ من قلب المعاناة: مصائد لُعِب فيها دور الميناء تدريجيًا، حتى صاروا أمام مرفأ ليس للبضاعة بل للأسلحة؛ وعندما حاول وفد تابِع للأمم المتحدة في أغسطس 2021، تفتيش الميناء والتحقّق من خلوّه من مخزّنات الأسلحة والمتفجرات، قُوبِلوا بالرفض؛ كان توزيع الحُجج يُظهر المدعى أن الميناء يُدار تجاريًا، بينما الحقيقة أن مخازن الميناء تُستخدم لأغراض عسكرية، والمناطق المجاورة تشكّل خطرًا على الأنشطة التجارية، بل وعلى حياة الناس من العمال والتجار
هذا التمركز العسكري ترافق مع ممارسات هرمية في إدارة الموارد. تقارير يمنية مستقلة وأخرى بحثية أشارت إلى أن المخا تحوّل إلى منفذ موازٍ تُدار عبره شحنات مشتقات نفطية وإمدادات لوجستية تتصل بمنظومة القوات المحلية الحليفة للإمارات. نشر «يمن شباب نت» ملفًا خاصًا في يوليو 2021 عن تزويد أبوظبي لحليفها طارق صالح بسفن مشتقات نفطية عبر الميناء، وما أثاره ذلك من ردود فعل حول طبيعة السيطرة على حركة السلع والعوائد داخل الميناء، بما يتجاوز القنوات الحكومية العادية. ورغم الحساسية العالية لمثل هذه المزاعم وصعوبة التحقق الميداني المستقل في ظروف الحرب، فإن تقاطعها مع سرديات دولية عن «شبكة نفوذ» إماراتية–ساحلية يمنحها وزنًا تحليليًا ضمن سياق أوسع، لا سيما مع توصيفات مؤسسات بحثية عربية ودولية لدور الفصائل المدعومة من أبوظبي في تقويض شرعية الحكومة وإعادة تشكيل الاقتصاد السياسي الساحلي.
 
من جهة أخرى، تؤكد قراءات معاهد متخصصة أن ما يظهر كتحوّل للمخا إلى «عقدة أمن–لوجستيات» لا ينفصل عن رؤية إماراتية أوسع لممرات التجارة والطاقة، تقوم على تثبيت نقاط تمركز على خطوط الإمداد، وتفضيل ترتيبات محلية مرنة عبر فصائل موالية على حساب المؤسسات الوطنية الهشة. وقد وثّقت دراسات مركز صنعاء ومعهد كارنيغي أنّ شبكة المواقع الإماراتية على السواحل والجزر (من ميون إلى سواحل الجنوب) ارتبطت بغايات أمن الممرات البحرية أكثر، من ارتباطها بإستعادة وظائف الموانئ اليمنية للاقتصاد الوطني. وبالنسبة للمخا، يعني ذلك أن القرار في إدارة الميناء ظلّ «مؤمّنًا» حتى اليوم ضمن اعتبارات عسكرية في المقام الأول، ما ضيّق هامش عودته سريعًا إلى دور مدني صرف.
 
في هذا السياق، أعادت دراسات لاحقة لمراكز بحثية إقليمية تذكير القراء بأن نفوذ الإمارات في اليمن لم يتلاشَ بإعلان خفض القوات، بل استمر عبر بنى أمنية سياسية محلية تابعة، وبتكييف أدوات النفوذ من الوجود المباشر إلى «الإشراف غير المباشر» عبر شركاء محليين. والمخا –كونها عقدة بحرية وشبكة طرق إلى تعز والساحل– شكّلت نقطة مثالية لترسيخ هذا النموذج.
 
إلى جانب ذلك، تراكمت دلائل إعلامية على أن «وظيفة المخا» يجري ربطها فعليًا بمنظومة باب المندب–ميون. فمع كل تحديث بصري للأقمار الصناعية عن مدرجات جديدة على جزر قريبة، تعود المخا إلى الواجهة باعتبارها نقطة خدمات وتموين وإسناد، أكثر من كونها ميناءً تجاريًا
هذه الإزاحة الوظيفية، التي تتغذى على حالة الحرب والانقسام، تمثل «تخريبًا بنيويًا» للميناء بمعناه المدني: تدمير بطيء لقدراته على العمل كأصل اقتصادي عمومي، لصالح وظيفة عسكرية/أمنية قابلة للاستدامة بفعل التمويل الخارجي والسرديات الأمنية.
 
وتشير وقائع موثّقة إلى أن بعض هذه الترتيبات جرى تسويغها بدعوى «حماية الملاحة» و«مكافحة تهريب السلاح»، وهي أهداف يصعب الاعتراض عليها من حيث المبدأ، لكنها في التطبيق جاءت على حساب إعادة تأهيل الميناء وتشغيله المدني.
حيث تُظهر مواد «كارنيغي» و«مركز صنعاء» أن هذا النمط –أي تغليب سلسلة الممرات البحرية على سلاسل القيمة المحلية– ينعكس مباشرة في فائض عسكرة الموانئ وتحوّلها من منصات اقتصاد محلي إلى عقد أمنية مغلقة. وفي حالة المخا، ظلّ هذا التحوّل متسقًا مع إعادة رسم النفوذ الإماراتي على الساحل، بصرف النظر عن درجة الحضور العسكري المباشر.
الخلاصة التي تسمح بها المعلومات المتاحة هي أن «تخريب» ميناء المخا لم يكن بعملية هدمٍ مباشر للبنى، بل بإخراج الميناء من تعريفه الوظيفي الطبيعي عبر ثلاث آليات تساندت: أولًا، عسكرةً صلبة للموقع ورسوخ فصيل محلي موالٍ لأبوظبي كسلطة فعلية عليه، وهو ما وثقته تقارير وتحقيقات متعددة عربية وغربية.
ثانيًا، ربطًا وظيفيًا للميناء بشبكة «الأمن البحري» الإماراتية في باب المندب وجزره، مع شواهد الأقمار الصناعية والتحقيقات الخبرية حول قاعدة ميون، ما جعل المخا بمثابة «ذراع إسناد» لمنظومة جزيرية–ساحلية أكبر.
ثالثًا، تقويض المسار المالي–الإداري المدني للميناء عبر تدوير الإيرادات وترسيخ أنماط جباية خارج الإطار المؤسسي، وتغييب الشفافية، وهو ما انعكس على الخدمات والسكان والقطاع الخاص المحلي.
 
النتيجة العملية: ميناءٌ مُعطَّل مدنيًا ومؤدلج أمنيًا، يخدم أولويات قوة إقليمية عبر شركاء محليين، أكثر مما يخدم الدولة اليمنية وسكانها في الساحل الغربي.  
 
منشأة بلحاف: شريان الغاز المختنق
تمثل منشأة بلحاف لتصدير الغاز المسال في محافظة شبوة حالة صارخة لتعطيل مورد سيادي حيوي. فهذه المنشأة التي تديرها شركة يمن LNG (بشراكة شركة توتال الفرنسية) كانت قبل الحرب تدر نحو 4 مليارات دولار سنويًا من عائدات تصدير الغاز، ما جعلها شريانًا اقتصاديا رئيسيًا لليمن.
وفي عام 2015، ومع اندلاع الحرب، توقفت صادرات الغاز تمامًا. وانتشرت قوات إماراتية ضمن قوات التحالف في بلحاف وحوّلت الموقع إلى قاعدة عسكرية مغلقة منذ ذلك الحين   عطّلت الإمارات تشغيل المنشأة عمدًا وحولتها إلى ثكنة لقواتها.
طوال السنوات التالية، تكرر تجاهل الإمارات والحزام الأمني التابع لها لمناشدات الحكومة اليمنية بإخلاء بلحاف لإعادة تشغيلها. وقد دعا محافظ شبوة السابق محمد بن عديو مرارًا إلى خروج القوات الإماراتية وتأمين خط أنابيب الغاز بهدف استئناف التصدير وإنقاذ الاقتصاد المحلي. كما وجّه فادي باعوم (رئيس المكتب السياسي للحراك الثوري الجنوبي) نداءً عامًا في 2022 قال فيه: "تعمدت الإمارات منذ 2015 تعطيل منشأة بلحاف وتحويلها إلى قاعدة عسكرية تابعة لها"، مقدّرًا خسائر اليمن نتيجة ذلك بحوالي 28 مليار دولار خلال 7 سنوات. وأوضح باعوم أن هذه الإيرادات المهدرة كانت كفيلة بتحسين قيمة العملة المحلية وتسديد رواتب الموظفين وتمويل الخدمات الأساسية لو استمرت تدفقات الغاز.
لم تقتصر الأضرار على الخسارة المالية فحسب، بل إن الوجود العسكري في بلحاف أوجد توترات أمنية ومجتمعية خطيرة في شبوة. فقد احتفظت الإمارات بالمنشأة رغم إعلانها الانسحاب من اليمن في 2019، وحولتها إلى مقر لقيادة عملياتها في المحافظات الجنوبية. وكشفت تقارير حقوقية عن استخدام جزء من قاعدة بلحاف كسجن سري احتُجز فيه معارضون محليون للقوات الإماراتية، وسط اتهامات بانتهاكات وتعذيب. وقد وثّقت منظمة مينا رايتس في 2023 حالات احتجاز تعسفي وتعذيب لمواطنين يمنيين في سجون داخل مجمع بلحاف تديرها قوات إماراتية، مما دفع بمحامين لرفع دعوى في فرنسا ضد شركة توتال لتورطها بالصمت إزاء تلك الانتهاكات.
على الصعيد المحلي، أدى استمرار إغلاق بلحاف إلى حرمان محافظة شبوة واليمن عامة من مورد الغاز الداخلي أيضًا، إذ كانت المنشأة تغذي السوق المحلية بالغاز المنزلي جزئياً. كما تعطلت مشاريع تنموية مرتبطة بها. وتصاعد الغضب الشعبي في شبوة، لدرجة أن خروج القوات الإماراتية من بلحاف أصبح مطلبًا شعبيًا في احتجاجات 2020-2021. وردّت أبوظبي وحلفاؤها بإزاحة المحافظ ابن عديو المناوئ لهم في أواخر 2021، ثم سيطرت قوات مدعومة إماراتيًا على عتق (عاصمة شبوة) في 2022 لتثبيت نفوذها، ما أدى لإقالة السلطة المحلية التي طالبت سابقًا بإخلاء بلحاف.
ورغم تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد في 2022 الذي يضم شخصيات مقربة من الإمارات، لم يطرأ تغيير يُذكر على وضع بلحاف. لا تزال القاعدة العسكرية قائمة، بل كشفت صور أقمار صناعية في منتصف 2023 عن قيام الإمارات بتوسعة منشآتها هناك مجددًا بعد توقف سنتين. حيث تم مسح مساحات واسعة داخل القاعدة وحفر أنفاق وبناء مرافق تحت أرضية جديدة، يعتقد أنها ملاجئ للجنود ومخازن أسلحة وصلت عبر الميناء النفطي في بلحاف.
 
 
في المحصلة، ظلّت بلحاف رهينة الحسابات العسكرية الإماراتية على حساب المصلحة الاقتصادية اليمنية. خسرت اليمن مليارات الدولارات من الإيرادات وفرصة عودة الاستثمار في قطاع الغاز، بينما اكتسبت أبوظبي موطئ قدم إستراتيجي على بحر العرب قرب خطوط الملاحة الدولية ومناطق الموارد. هذا النهج الأمني-الاقتصادي الإماراتي في بلحاف يعكس نهج أبوظبي في اليمن: تأمين قواعد عسكرية في مواقع الموارد والبنى التحتية الحيوية لضمان نفوذ طويل الأمد، حتى لو أدى ذلك لإفقار حليفها المعلن (الحكومة اليمنية) وحرمانها من مصادر الدخل
الصور الفضائية الملتقطة في منطقة بلحاف بمحافظة شبوة تكشف بوضوح عن استحداثات ذات طابع عسكري متطور نفذتها الإمارات في نطاق ملاصق لمنشأة الغاز الطبيعي المسال. في الموقع الأول تظهر مساحة مسوّرة تضم مهبطين للطائرات المروحية مع مبانٍ وحاويات موزعة على الأطراف، ما يشير إلى أنها نقطة استقبال وإسناد لوجستي للمروحيات التي تنقل الأفراد والمعدات، ويؤكد الطابع العسكري وجود تسوير محكم وتخطيط يسمح بعمليات إقلاع وهبوط متزامنة. في الموقع الثاني تتضح منشأة أكبر حجماً تضم ستة مهابط مروحية مرتبة بتخطيط منتظم، مع تجمع كبير لآليات ومبانٍ تشغيلية في الوسط، وهو تصميم أقرب إلى قاعدة أمامية للمروحيات تتيح استقبال عدة طائرات في وقت واحد، وتوفر قدرة على الانتشار السريع في مسرح العمليات، كما أن وجود السواتر الترابية والمركبات المتنوعة يوحي بتحصين الموقع وتجهيزه للعمل طويل الأمد. أما الموقع الثالث فيقع مباشرة على الطريق الرئيسي المؤدي إلى منشأة بلحاف، ويحتوي على مهبط كبير بمساحة تكفي لاستقبال مروحيات ثقيلة، إضافة إلى مبنى ملاصق يقوم على الأرجح بمهام تنسيق الحركة الجوية، ما يجعله نقطة إمداد أو مركز دعم للطوارئ مرتبطاً بشكل مباشر بمهام تأمين المنشأة. النمط العام للتخطيط، وعدد المهابط، وتوزيع المباني والآليات، يتطابق مع نماذج القواعد التي أنشأتها الإمارات في مناطق استراتيجية أخرى، ويكشف عن هدف مزدوج يتمثل في إحكام السيطرة على منشأة بلحاف الحيوية ومنع أي قوة محلية أو معارضة من الاقتراب منها، وفي الوقت نفسه امتلاك منصة جوية تسمح بتنفيذ عمليات إنزال وانتشار سريع في محيط شبوة والمناطق الساحلية القريبة، ما يضمن بقاء القرار الأمني والعسكري في يد القوة المسيطرة على هذه القواعد.
 
 
 
 
 
 
ميناء المكلا وساحل حضرموت: نفوذ النخبة وإقصاء الصيادين
بعد انسحاب قوات الشرعية اليمنية من مدينة المكلا في أبريل 2016 بضغوط إماراتية، بسطت قوات "النخبة الحضرمية" المدعومة من أبوظبي سيطرتها على ساحل حضرموت بالكامل من مدينة المكلا إلى حدود المهرة. يصف مسؤول عسكري رفيع في حضرموت تلك المرحلة بالقول: "الإمارات هي الحاكم الفعلي لساحل حضرموت منذ 2016 عبر تدخلاتها المباشرة في عمل السلطة المحلية والمؤسسات، خصوصًا الأجهزة الأمنية والعسكرية"فقد أنشأت أبوظبي ودربت قوات النخبة الحضرمية وتكفلت برواتب قوامها، لتكون ذراعها الأمني هناك. ونتيجة لذلك، أصبحت المنطقة الساحلية (12 مديرية) مسرحًا لنفوذ إماراتي مطلق، بينما انحصر نفوذ السعودية في وادي حضرموت الداخلي.
 
هذا النفوذ الإماراتي ترافق مع عسكرة المرافق العامة وتعطيل مصالح السكان. ففي المكلا، أبقَت الإمارات مطار الريان الدولي مغلقًا لأكثر من خمس سنوات  وحوّلته إلى قاعدة جوية ومعتقل تديره قواتها. وفي ميناء الضبّة النفطي شرقي المكلا، نشرت قوات إماراتية وحوّلت الميناء إلى منطقة عسكرية مغلقة، وأغلقت الطريق الساحلي الرابط بين مدينتي المكلا والشحر لمنع المرور قرب الميناء. كما حُظر اقتراب الصيادين من مناطق صيد واسعة قرب ميناء الشحر وغيل باوزير، بدعوى تأمين الساحل.
 
يؤكد مصدر محلي أن الإمارات "تعطّل المصالح العامة؛ أغلقت البحر أمام صيادي منطقة شحير... وسدّت طرقات حيوية للسكان"بحلول 2018، كان أكثر من 4,000 صياد في مدينة الشحر قد فقدوا مصدر رزقهم بسبب حظر الصيد في المناطق القريبة من مطار الريان وميناء الضبة.
 
يقول سامي  وهو صياد من المكلا: "منذ 2016 شباكي فارغة... مُنعنا من الاقتراب من مناطق صيدنا المعتادة بحجة أنها قرب منشآت عسكرية ونفطية". ويضيف صياد آخر : "بسبب هذه القيود، لم أعد قادراً على قوت يومي، تراكمت عليّ ديون 500 ألف ريال ولا أستطيع سدادها". وتشير تحقيقات استقصائية إلى أن إجمالي كميات الأسماك المصيدة في اليمن انخفض بشكل حاد خلال سنوات الحرب؛ فخلال 2015–2019 شكلت الكميات أقل من 4% فقط من إجمالي الصيد لـ15 سنة، مقارنة بـ10% قبل الحرب. ورغم أن عوامل عدة ساهمت في ذلك التراجع (كالحرب والحصار البحري الشامل)، فإن منع الصيد في سواحل حضرموت والمهرة بواسطة قوات التحالف كان عاملًا رئيسيًا بحسب الخبراء.
 
ولم يقتصر الأمر على المنع، بل واجه الصيادون أي تحرك احتجاجي بالقمع. يروي أبو عبدالله – أحد قيادات تجمع الصيادين – أنهم نظموا اعتصامات سلمية للمطالبة برفع الحظر، فقوبلوا بالتهديد والاعتقال. "كلما نوينا الاعتصام، يأتينا ضباط مخابرات يتبعون الإمارات في مطار الريان ليهددونا بالسجن" يقول أبو عبدالله. ويؤكد صيادون آخرون أن شكاواهم للسلطات المحلية لم تلق أي استجابة، كون القرار الفعلي ليس بيدها.
على جانب آخر، استغلّت الإمارات سيطرتها لتأمين مصالح اقتصادية خاصة في حضرموت. إذ أفادت تقارير إعلامية أن شركات إماراتية حصلت على امتيازات في تصدير خامات معدنية (كالحجر الجيري والذهب) عبر ميناء المكلا  وسط تكتم شديد وغياب رقابة الدولة. كما أصبحت موانئ حضرموت منفذًا لنقل الأسلحة والعتاد لصالح قوات موالية للإمارات في جبهات أخرى، مستفيدة من غياب الرقابة الحكومية على تلك السواحل الطويلة.
 
في المحصلة، رسّخت أبوظبي نفوذًا متعدد الأوجه في ساحل حضرموت: سيطرة أمنية عبر النخبة الحضرمية، وعسكرة المطارات والموانئ، وتضييق على السكان والصيادين، واستغلال للموارد. ورغم إعلان تشكيل السلطة الرئاسية الجديدة، لا تزال موانئ حضرموت  تحت سيطرة الإمارات ولا تزال قوات النخبة تفرض أمرًا واقعًا على ساحل حضرموت.
أما الصيادون، فبعضهم عاد إلى البحر في نطاقات ضيقة بعيدًا عن المناطق المحظورة، بينما هجر آخرون المهنة تمامًا
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
ميناء نشطون بالمهرة: مقاومة محلية لتحجيم النفوذ الإماراتي
ظلت محافظة المهرة وأهم منافذها البحرية ميناء نشطون بمنأى نسبيًا عن معارك الحرب حتى العام 2017. هذه المحافظة الواقعة أقصى شرق اليمن تتمتع بأهمية جغرافية لقربها من عُمان وإطلالها على بحر العرب.
ومع توسع النفوذ الإماراتي في الجنوب، حاولت أبوظبي مدّ نفوذها بهدوء نحو المهرة مستغلة شعار مكافحة التهريب الإيراني للحوثيين.
وفي نوفمبر 2017، وصلت قوات إماراتية ترافقها وحدة من "النخبة الحضرمية" إلى ميناء نشطون وتمركزت بالقرب منه.  
رفعت أبوظبي شعار "تأمين الميناء ومنع تهريب أسلحة للحوثيين عبره"، لكن سرعان ما اتضح للمهريين أن الهدف غير المعلن هو إنشاء موطئ قدم إماراتي على حدود عُمان. حيث اندلعت توترات وخلافات حادة فور قدوم تلك القوات، نظراً لحساسية المهرة وممانعة سكانها لأي وجود عسكري أجنبي.
أمام هذا الضغط المحلي، لم تتمكن الإمارات من تثبيت موطئ قدم مباشر في ميناء نشطون. فاتجهت لتعزيز نفوذها عبر حلفائها السعوديين. في أواخر 2017 ومطلع 2018، دفعت السعودية بقوات إلى المهرة لتأسيس حضور تحت مبرر مكافحة التهريب أيضًا. وأنشأ التحالف (السعودية والإمارات) عدة نقاط عسكرية ومعسكرات على امتداد الساحل المهري. تحقيق استقصائي لمنظمة ARIJ كشف عبر صور الأقمار الصناعية أنه خلال 2018-2019 أقيمت 11 نقطة عسكرية قرب 11 ميناء وسنبة صيد على شواطئ المهرة، أولها قرب ميناء نشطون في أغسطس 2018. هذه المواقع العسكرية فرضت قيودًا أشد على حركة الصيادين والتجار المحليين في الساحل، إلى جانب تحكمها في كل ما يصل بحرًا إلى المهرة
 
ورغم أن الإمارات قلّصت تواجدها المباشر في المهرة بعد 2018 لصالح القوات السعودية، إلا أنها استمرت في تحقيق نفوذ اقتصادي ناعم.
ففي الأيام الأخيرة لعام 2022، كشفت مصادر حكومية عن اتفاق أبرمته حكومة عدن مع الإمارات لبناء ميناء جديد في منطقة "قشن" بالمهرة بقيمة 100 مليون دولار. وقد أثار هذا الاتفاق استنكارًا، حيث وصفته قوى محلية بأنه "بيع لأحد موانئ المهرة لشركة وهمية تابعة للإمارات". وتأسست شركة إماراتية لإدارة وتشغيل ميناء قشن مدة 50 عامًا في صفقة غامضة، الأمر الذي اعتبرته فعاليات المهرة امتدادًا لمخطط أبوظبي للسيطرة على سواحل المحافظة بواجهات استثمارية. وبالفعل خرجت مظاهرات رافضة لهذا المشروع، وعبّرت الجبهة الجنوبية لمقاومة الاحتلال عن رفضها القاطع للاتفاق.
 
حتى اليوم، لا يزال ميناء نشطون تحت سيطرة قوات يمنية موالية للسعودية (خفر سواحل وقوات أمن مهرة بإشراف سعودي). ورحلَ الوجود العسكري الإماراتي المباشر منذ 2019 تحت ضغط الاحتجاجات، لكنه ترك بصمات مستمرة. فالميناء يعمل بطاقته الدنيا ويخضع لتفتيش مشدد، وحركة الملاحة محدودة. ويشكو صيادو المهرة من استمرار القيود على مناطق الصيد قرب المنافذ الساحلية حيث ترابط نقاط التحالف، مع منع إدخال معدات معينة بحجة إمكانية استخدامها بالتهريب.
 
رغم كل ذلك، حافظت المهرة نسبياً على استقرارها الداخلي بفضل تجانس نسيجها الاجتماعي لكن التحذيرات التي أطلقها أبناء المهرة عام 2017 تحققت جزئيًا: فقد تضرر اقتصاد المحافظة المحلي وتعطلت مشاريع تنموية كانت مأمولة، ودخلت المهرة دائرة التجاذب الإقليمي. وكما قال أحد مشايخ المهرة مخاطبًا أبناء محافظته: *"لديكم عبرة في عدن وغيرها... موانئ معطّلة ومطارات مغلقة وتفجيرات... حافظوا على أمن محافظتكم قبل فوات الأوان" وبالفعل، نجت المهرة من دوامة العنف، لكنها لم تنجُ تمامًا من معركة الموانئ التي لا تزال تدور على مستوى أعلى بين أبوظبي ومسقط في ساحل بحر العرب.
 
 
الأبعاد الإستراتيجية للهيمنة الإماراتية على الموانئ اليمنية
يتضح من الحالات السابقة أن الإمارات لم تتصرف بدافع تكتيكي مؤقت في كل ميناء، بل ضمن رؤية إستراتيجية أوسع. فالسيطرة على الموانئ والجزر اليمنية تحقق لأبوظبي عدة أهداف مترابطة
 
1- التحكم بخطوط الملاحة الدولية: تطل الموانئ اليمنية (عدن والمخا وسقطرى وبلحاف) على منافذ بالغة الأهمية: مضيق باب المندب الذي يمر عبره نحو 15%من تجارة النفط العالمية، وخط بحر العرب-المحيط الذي يربط آسيا بأوروبا عبر قناة السويس. الإمارات، الطامحة للعب دور القوة البحرية الأولى في المنطقة، وجدت في وجودها بتلك المواقع ضمانة لأن تتحكم في هذه الممرات ومنع تهديد منافسيها.
يقول الخبير الأمريكي جيريمي بينّي إن إنشاء مدارج عسكرية إماراتية في ميون وسقطرى يؤكد "هدفًا إستراتيجيًا طويل الأمد بترسيخ حضور عسكري يُمكّن من بسط النفوذ على طرق الشحن البحري الأساسية". فلم يعد الأمر متعلقًا بالحرب في اليمن وحدها، بل بمشروع إماراتي أوسع للهيمنة البحرية يمتد من الخليج إلى البحر الأحمر. 
 
2- إقامة سلسلة موانئ ومحطات نفوذ إقليمية: ضمن ما يسميه بعض المحللين "إمبراطورية الموانئ الإماراتية"، أنشأت أبوظبي خلال العقد الأخير شبكة نفوذ تشمل موانئ في القرن الأفريقي (مثل عصب في إريتريا وبربرة في أرض الصومال) إضافة لموانئ اليمن. وقد تمكنت الإمارات من السيطرة على أبرز الموانئ اليمنية الإستراتيجية: عدن (جنوب)، المكلا والشحر (شرق)، المخا (غرب)، إضافة إلى جزيرتي سقطرى وميون عند مضيق باب المندب. هذا الانتشار يمنحها أوراق قوة في مواجهة القوى الإقليمية المنافسة. فوجودها في عدن يقطع الطريق على أي دور تركي أو قطري محتمل عبر الشرعية، وسيطرتها في سقطرى وباب المندب يراقب طموحات الصين أو إيران في تلك الممرات. كما أن حضورها في المهرة يضعها في خاصرة عُمان التي تنظر بحساسية لأي تمدد إماراتي قرب حدودها.
 
 
 
3- تأمين طرق بديلة لصادراتها وحلفائها: تنظر أبوظبي والرياض إلى السيطرة على الموانئ اليمنية أيضًا كفرصة لفتح طرق تصدير جديدة للنفط بعيدًا عن مضيق هرمز المهدَّد إيرانياً. فالسعودية تطمح عبر نفوذها في المهرة وحضرموت إلى مدّ أنبوب نفطي يصل لميناء على بحر العرب (كان مخططًا أن يكون نشطون أو قشن). والإمارات بدعمها لهذا التوجه تضرب عصفورين بحجر: تساعد حليفها السعودي وتستفيد تجاريًا عبر شركاتها (كموانئ دبي وأبوظبي) في إنشاء وإدارة تلك المرافئ.
 
4- توسيع النفوذ السياسي عبر وكلاء محليين: ربطت الإمارات سيطرتها على الموانئ بخلق كيانات محلية موالية تضمن استمرار النفوذ حتى مع تقليص وجودها العسكري المباشر. فدعمت بقوة المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يرفع شعار انفصال الجنوب، ونجحت عبره في بسط هيمنة على عدن وسقطرى ولحج وأجزاء من شبوة. كما دعمت القوات المشتركة بالساحل الغربي بقيادة طارق صالح لتأمين المخا والموانئ حول باب المندب. وفي حضرموت، أنشأت قوات النخبة لضمان يد طولى على ساحل المكلا. هذه التشكيلات وفرت لأبوظبي نفوذًا مستدامًا بتكلفة أقل، بحيث أصبحت القرارات السيادية في تلك المناطق تُتخذ عمليًا في أبوظبي عبر حلفائها اليمنيين.
 
5- تحجيم نفوذ الشرعية: رغم الخلافات التكتيكية أحيانًا بين أبوظبي والرياض في اليمن، يظل هدفهما المشترك تحجيم اي دور للحكومة الشرعية في سواحل اليمن
6-  المكاسب الاقتصادية والشركات الإماراتية: لا يمكن إغفال دافع الربح التجاري في هذه الإستراتيجية. فشركات موانئ إماراتية عملاقة مثل موانئ دبي العالمية وأبوظبي للموانئ تبحث عن توسيع محفظة استثماراتها ومناطق تشغيلها. اليمن سوق واعد في قطاع الموانئ والملاحة على المدى البعيد نظرًا لموقعه والتجارة العابرة قربه. سيطرة الإمارات على الموانئ اليمنية اليوم تضعها في موقع متميز للإفادة مستقبلًا من إعادة إعمار اليمن وتشغيل خطوط الملاحة فيه. وبالفعل رأينا كيف حاولت شركة موانئ دبي السيطرة على عدن سابقًا وعطّلتها، وكيف تسعى شركة موانئ أبوظبي الآن للعودة عبر اتفاق تأجير جديد. وكذلك اتفاق إدارة ميناء قشن بالمهرة عبر شركة إماراتية. هذا يعني تحويل الأصول اليمنية إلى مصادر دخل طويلة الأجل لأبوظبي.
 
ومع ذلك، تواجه الإمارات معضلات وتحديات في مشروعها. فهناك رفض شعبي يمني متنامٍ لهيمنة أبوظبي وصل حد اتهامها بالاحتلال. كما أن الخلافات بين الإمارات والسعودية أحيانًا طفت على السطح حول تقاسم النفوذ بالموانئ (مثل التباين في أولويات كل منهما بالمهرة وحضرموت). بالإضافة إلى ضغوط دولية خجولة ظهرت بشأن ممارسات الإمارات (كتقارير الأمم المتحدة التي وثقت بناء قاعدة في ميون سرًا، أو الانتهاكات ضد حقوق الإنسان في سجون سرية).
 
 
 
 
 
 
التحليل العام
 
في كل ميناء من موانئ اليمن التي خضعت للنفوذ الإماراتي، لا نواجه حادثة معزولة أو تدخلاً عارضًا، بل فصلًا من فصول مشروع ممتد لإعادة رسم اليمن على هوامش خرائط القوى الإقليمية. الإمارات، التي بنت ازدهارها على اقتصاد خدمات وموانئ، لم ترَ في اليمن مجرد جار منكوب يحتاج الدعم، بقدر ما وجدت فيه فرصة ذهبية لتوسيع رقعة نفوذها البحري، من بوابة بلد أنهكته الحرب وانكسرت فيه مؤسسات الدولة.
 
المسألة أبعد من شعارات “دعم الشرعية” و“حماية الملاحة”. نحن أمام استثمار بارد في هشاشة الدولة، يُترجم إلى سيطرة فعلية على المنافذ البحرية وتحويلها إلى أدوات ضغط ومقايضة. في عدن مثلاً، كان واضحًا منذ البداية أن الميناء، لو أتيح له أن يعمل بكامل طاقته، قد ينافس جبل علي على موقعه في التجارة الإقليمية. النتيجة لم تكن تطويره، بل تعطيله؛ أولاً عبر إدارة موانئ دبي التي جمدت نشاطه، ثم عبر تمكين قوى محلية تابعة تضمن بقاءه خارج المنافسة.
 
المخا بدوره تحوّل إلى درس أكثر وضوحًا في عسكرة الموانئ. المرفأ التاريخي القريب من باب المندب، والذي كان بوابة للبضائع والصيادين، صار ثكنة مغلقة. لم يعد الحديث عن خطط تنمية أو إعادة إعمار، بل عن إجراءات أمنية دائمة تُعيد تعريف الميناء كعقدة لوجستية في شبكة عسكرية تمتد إلى جزر ومواقع استراتيجية أخرى. النتيجة أن المدينة أُخرجت من اقتصادها المحلي وأُدرجت في اقتصاد نفوذ جديد لا يربطها بعاصمتها بقدر ما يربطها بمركز القرار في أبوظبي.
 
أما بلحاف، فهنا يلتقي الطمع الاقتصادي بالمنطق العسكري في أوضح صورة. منشأة الغاز التي كانت تدر مليارات سنويًا لليمن أُغلقت وتحولت إلى قاعدة، والخسارة لم تكن مالية فقط، بل كانت أيضًا في ترسيخ نموذج يجعل من القرار الاقتصادي رهينة للوجود العسكري الأجنبي.
 
حضرموت شهدت بدورها وجهاً اجتماعياً لهذه السيطرة؛ آلاف الصيادين فقدوا مصدر رزقهم بسبب حظر مناطق الصيد، والبحر الذي كان يطعمهم صار منطقة محظورة بحجة تأمين المنشآت. هذا ليس مجرد منع للصيد، بل تدمير لبنية اقتصادية محلية، وفرض تبعية على المجتمع، بحيث يصبح الولاء لمن يملك سلطة فتح البحر أو إغلاقه.
 
حتى المهرة، التي فشلت الإمارات في تحويلها إلى قاعدة دائمة، لم تسلم من آثار المشروع. حين تعذّر الوجود العسكري المباشر، جرى اللجوء إلى عقود استثمارية طويلة الأجل ومشاريع ذات واجهة اقتصادية، لكنها تحمل ذات المعنى: ترسيخ موطئ قدم في المشهد الاقتصادي للساحل الشرقي.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
القاسم المشترك بين هذه الحالات هو أن السيطرة لم تكن رد فعل على تهديد آني، بل جزء من رؤية متكاملة لبناء شبكة موانئ ومحطات نفوذ، لا لخدمة اليمن، بل لربطه بمسار تجاري يخدم موانئ الإمارات ويحمي موقعها التنافسي. وهنا يلتقي الأمني بالاقتصادي: خطاب حماية الملاحة يصبح غطاء لإعادة توزيع الأدوار الاقتصادية بين الدول، بحيث تتكدس الأرباح في المركز وتبقى الأطراف في دور المستهلك العاجز عن الإنتاج.
 
الأخطر هو تكريس نموذج الوصاية الاقتصادية، حيث يدار الميناء أو المنشأة عبر سلطة محلية تابعة، بغطاء قانوني أو اتفاقيات طويلة المدى، تجعل استعادة القرار السيادي شبه مستحيلة. ومع الوقت، يصبح الميناء نفسه موضوعًا للتفاوض بين القوى الإقليمية، لا أصلًا سياديًا بيد الدولة.
 
هذا كله ممكن فقط في بيئة تتسم بغياب الدولة المركزية، وانقسام القوى المحلية، وافتقار الاقتصاد الوطني إلى القدرة على الصمود، مع غياب رقابة دولية جدية. الإمارات لم تشق طريقها إلى هذه الموانئ في فراغ، بل على أرضية ممهدة بالفوضى والحرب.
 
المعركة هنا ليست حول ميناء بعينه أو جزيرة بعينها، بل حول تعريف السيادة نفسها. إذا ظل اليمنيون يتعاملون مع هذه المنافذ بوصفها أوراق مساومة، فإنهم سيكتشفون يومًا أن أطماع الآخرين لا تنكسر إلا بإرادة وطنية تعيد الموانئ إلى دورها الطبيعي: بوابات اقتصاد وازدهار، لا بوابات هيمنة ومساومة.
 
اليمن بين مطرقة الحرب وسندان الأطماع
أفرزت الحرب اليمنية واقعًا استثنائيًا يتمثل في تقاسم فعلي للسيادة على الموانئ والمنافذ بين قوى إقليمية. وجدت الإمارات في ضعف الدولة اليمنية فرصة لبسط نفوذ بحري يمتد من سواحل الخليج حتى القرن الأفريقي، لكن ذلك كان ثمنه باهظًا على اليمنيين. فعلاوة على تلك الحرب والحصار البحري شمالًا، عانى اليمنيون في الجنوب والشرق من تعطيل موانئهم بقرار من الحليف المفترض. توقفت حركة التجارة والصيد في العديد من المناطق، وخسر الاقتصاد موارد هائلة كان بأمسّ الحاجة إليها. وتفاقمت الأزمات المعيشية مع انقطاع الرواتب وانهيار العملة، فيما المنافذ التي كان يفترض أن تكون شرايين لإنقاذ البلاد ظلت معطلة.
 
لقد سلطنا الضوء على ستة موانئ ومواقع جوهرية: عدن الذي كاد أن يكون منافسًا لموانئ الخليج فتحوّل لساحة نزاع على إدارته؛ المخا بوابة اليمن القديمة إلى العالم التي أُغلقت في وجه أهلها؛ بلحاف كنز الغاز الذي حُبس في قمقم القاعدة العسكرية؛ المكلا وساحل حضرموت حيث حلّت ثكنات النخبة محل مرافئ الصيادين؛ نشطون/المهرة التي قاومت التمدد فظلت الأقل ضررًا وإن لم تسلم تمامًا؛ وأخيرًا سقطرى جوهرة المحيط التي انفصلت عن جسد الوطن وباتت درعًا متقدمًا في مشروع البحار الإماراتي.
 
 
 
 
 
هذا المشهد يعيد إلى الأذهان دروس التاريخ بأن اليمن، برغم ضعفه الآني، يبقى موقعًا لا يمكن تجاهله في معادلة القوة الإقليمية. فباب المندب وقلب الملاحة العالمية يمر من هناك. ومن يسيطر على موانئ اليمن يمكنه - نظريًا - التأثير على تدفق التجارة الدولية. لذا ليس مستغربًا أن تتنافس القوى على اقتسام هذا الإرث. ولكن الشعب اليمني يدفع الثمن؛ فبدلًا من أن تكون موانئه بوابة للازدهار والتواصل مع العالم، أضحت رمزًا لضياع السيادة والفرص الضائعة.
 
إن استعادة الموانئ لدورها الطبيعي مرهون في المقام الأول بعودة الاستقرار السياسي ووحدة القرار اليمني. فلا يمكن لأي اتفاق سلام مستقبلي أن يستقيم والبلاد مشرذمة السلطات على منافذها. وستكون قضية الموانئ والجزر اختبارًا حقيقيًا لمدى نجاح أي تسوية قادمة: هل ستنسحب القوى الأجنبية وتسلم تلك المرافق للدولة؟ أم سنشهد استمرارًا لنموذج الوصاية الاقتصادية عبر عقود طويلة الأجل لشركاتها (كما يحدث الآن في ميناء عدن وقشن)؟في غضون ذلك، يبرز دور الإعلام والمنظمات الدولية في تسليط الضوء على ما يجري في تلك المناطق المعزولة.
وقد بدأت بعض الأصوات ترتفع: تقريرات لجنة خبراء الأمم المتحدة أثارت مسألة القواعد العسكرية الإماراتية في ميون وسقطرى، وصحف عالمية نشرت تحقيقات عن القواعد "الغامضة" التي تبنيها أبوظبي في الجزر. لكن الضغط لا يزال خجولًا أمام أمر واقع رسخته الإمارات على الأرض.
 
غير أن الكلفة بعيدة المدى لهذه الهيمنة قد تكون عالية. فاليمنيون لن يرضوا بتهميشهم اقتصاديًا إلى الأبد، وقد يؤدي الحرمان المتواصل إلى انفجار الغضب الشعبي حتى ضمن معسكر المناوئين للحوثي. 
 
 
توصيات الدراسة
 
ليس ما كشفته هذه الدراسة عن الموانئ اليمنية مجرد تفاصيل عن منشآت أُغلقت أو سواحل مُنعت عنها قوارب الصيادين. نحن أمام لوحة كاملة لسياسة منهجية، عابرة للسنوات وللأزمات، نجحت الإمارات في تثبيتها على الأرض، بحيث لم تعد ترتبط بمجرى الحرب وحدها، بل باتت جزءًا من إعادة رسم الجغرافيا السياسية والاقتصادية للمنطقة. لقد تحولت الموانئ، التي كانت يومًا شرايين حياة لليمن، إلى أدوات في شبكة نفوذ، تربط ما بين باب المندب وسواحل القرن الأفريقي وبحر العرب، وتُدار بعقلية احتكار وتفوق بحري، يحرص على إقصاء أي منافس محتمل، ولو كان هذا المنافس شريكًا في الجغرافيا والمصير.
 
هذه ليست قصة “دعم الشرعية” ولا “حماية الملاحة”، رغم أن هذه العناوين كانت غطاءً مثاليًا لتمرير الخطط. بل هي قصة تحويل الفراغ السيادي إلى فرصة استثمارية وأمنية في آن، حيث يصبح الميناء أو المنشأة أو الجزيرة ورقة على طاولة التفاوض الإقليمي، لا أصلًا سياديًا تابعًا للدولة. واللافت أن هذا المشروع لا يقف عند حد السيطرة المباشرة، بل يتجاوزها إلى بناء منظومة محلية من الوكلاء والكيانات الأمنية والاقتصادية التابعة، بما يضمن استدامة النفوذ حتى لو تغيرت الظروف أو تبدلت التحالفات.
 
إن أخطر ما في التجربة اليمنية أن القبول التدريجي بالوصاية الاقتصادية على الموانئ يُعيد تعريف السيادة نفسها، ويجعل فكرة إدارة الموارد الوطنية من خارج مؤسسات الدولة أمرًا “طبيعيًا” في الوعي العام. وهذا يعني أن استعادة الموانئ، حتى بعد أي تسوية سياسية شاملة، لن تكون أمرًا تقنيًا يتعلق بتسليم المفاتيح، بل معركة طويلة لإعادة دمج هذه المرافق في الاقتصاد الوطني، وفك ارتباطها بشبكات المصالح التي تشكلت حولها.
 
لقد بينت الدراسة أن أثر هذا المشروع يتجاوز الاقتصاد إلى الاجتماع والسياسة. فالمدن الساحلية التي كانت تعيش على عائدات الصيد والتجارة البحرية دخلت في حالة من الركود، وارتفعت معدلات البطالة والفقر، وهاجر كثيرون من مهنتهم أو مناطقهم. وفي المقابل، تحولت النخب المحلية المستفيدة من الحماية أو التمويل الإماراتي إلى قوة سياسية وأمنية تعرقل أي محاولة لاستعادة الموانئ إلى سلطة الدولة. هذه البنية المعقدة تجعل من ملف الموانئ أحد أعقد ملفات ما بعد الحرب، لأنه ملف يتقاطع فيه المحلي بالإقليمي والدولي، ويتشابك فيه الأمني بالاقتصادي والاجتماعي.
 
من هنا، فإن أي مقاربة جادة لمعالجة هذه القضية لا بد أن تنطلق من إدراك أن المسألة ليست في الميناء وحده، بل في المنظومة التي أُنشئت حوله. فإعادة تشغيل الموانئ كمرافق مدنية تستدعي إعادة تعريف دور القوى المحلية المهيمنة عليها، وضبط علاقتها بمراكز النفوذ الخارجي، وتحرير اقتصاد الساحل من دائرة الاحتكار المفروض.
 
استنادًا إلى ما تقدم، تطرح الدراسة مجموعة من التوصيات:
أولاً، أن يُدرج ملف الموانئ والجزر اليمنية في صدارة أي مفاوضات سياسية أو اتفاقات سلام قادمة، باعتباره ملفًا سياديًا لا يقل أهمية عن ملفات وقف إطلاق النار أو إعادة الإعمار. وينبغي النص صراحة على انسحاب أي قوات أجنبية من هذه المرافق، وإعادتها إلى إدارة وطنية خاضعة لرقابة الدولة.
 
ثانيًا، أن تُنشأ هيئة وطنية مستقلة لإدارة الموانئ، تضم ممثلين عن الحكومة المركزية والسلطات المحلية وخبراء في النقل البحري والاقتصاد، وأن تُمنح هذه الهيئة صلاحيات واسعة لإعادة تأهيل وتشغيل الموانئ وفق خطة اقتصادية متكاملة، بما يضمن تعظيم العوائد المالية وتوزيعها بعدالة على المناطق الساحلية.
 
ثالثًا، أن تُربط إعادة تشغيل الموانئ بخطط تنمية شاملة للمجتمعات الساحلية، تتضمن إعادة تأهيل قطاع الصيد البحري، وتوفير بدائل معيشية للمتضررين من سياسات الحظر السابقة، وضمان حق المجتمعات المحلية في الانتفاع من مواردها الطبيعية.
 
رابعًا، أن يمارس الإعلام الوطني والمجتمع المدني دورًا فاعلًا في مراقبة أي عقود أو اتفاقيات تتعلق بإدارة الموانئ، وكشف أي محاولات لإعادة إنتاج نموذج الوصاية الاقتصادية تحت مسميات جديدة. الشفافية هنا ليست ترفًا، بل شرط أساسي لمنع عودة النفوذ الخارجي عبر الشركات والصفقات المغلقة.
 
خامسًا، أن يُستثمر الدعم الإقليمي والدولي لإعادة الإعمار في إعادة ربط الموانئ اليمنية بشبكات التجارة العالمية، على نحو يخدم الاقتصاد الوطني لا اقتصادات القوى الخارجية. وهذا يتطلب إرادة سياسية قادرة على التفاوض من موقع الندية، لا من موقع التبعية.
 
إن هذه التوصيات تمثل دعوة لإعادة الاعتبار لفكرة السيادة كحق عملي، لا كشعار. فالموانئ ليست مجرد بوابات بحرية، بل هي شرايين حياة، وإذا بقيت مغلقة أو مُسخّرة لمصالح الآخرين، فإن اليمن سيظل في حالة احتباس اقتصادي، مهما تدفقت عليه أموال المانحين أو وعود إعادة الإعمار.
 
إن استعادة الموانئ ليست فقط ضرورة اقتصادية وإنما اختبار لمدى قدرة اليمنيين على إعادة بناء دولتهم على أسس تضع المصلحة الوطنية فوق الحسابات الفصائلية أو الإقليمية. ولعل الدرس الأبرز من التجربة المريرة أن من يفرط في بواباته البحرية يفرط في موقعه في العالم، ويقبل بأن يكون على هامش حركة التاريخ، بدل أن يكون جزءًا من صنعه.
 
إن الأيام القادمة ستكشف إن كانت هذه البلاد قادرة على قلب المعادلة، وإعادة الموانئ إلى دورها الطبيعي كبوابات للتواصل والتجارة، أو أنها ستظل عالقة في شبكة النفوذ التي نُسجت حولها. وفي الحالتين، فإن اليمن سيظل شاهدًا على أن الجغرافيا التي لا تُحسن الشعوب الدفاع عنها، سيجد الآخرون دائمًا طريقة لإعادة تعريفها بما يخدم مصالحهم.
 
أخيرا سيذكر التاريخ يومًا كيف أن موانئ اليمن، بوابات الحضارة منذ سبأ ومملكة حمير، كادت أن تُغلق في وجه أبنائها في مطلع القرن الحادي والعشرين. لكن اليمن بثقله الجغرافي والبشري لن يظل حبيسًا؛ وسواء عبر حل سياسي أو أمر واقع جديد، ستعود تلك الموانئ للتنفس من جديد. والسؤال: هل ستعي القيادة الإماراتية أن المصالح يمكن تأمينها بالشراكة مع اليمن لا بالهيمنة عليه؟ أم أن عجلة الأطماع ستستمر بالدوران إلى أن تفقد زخمها أمام إصرار اليمنيين على سيادتهم وحقوقهم المشروعة؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة، لكنها بلا شك ستحمل دروسًا لمن يعتبر في فن إدارة النفوذ واحترام إرادة الشعوب.
 
المصادر:
 
تقارير الجزيرة نت، 3 سبتمبر 2020: الإمارات تحول ميناء المخا إلى ثكنة عسكرية.
الموقع بوست، 23 مايو 2022: تقديرات فادي باعوم لخسائر تعطيل بلحاف ($4 مليار سنويًا، 28 مليار خلال 7 سنوات).
يمن مونيتور، 20 أغسطس 2023: تحقيق حول التوسعات الإماراتية في قاعدة بلحاف والاحتفاظ بسجن سري ودعم 120 ألف مقاتل محلي.
موقع The New Arab (العربي الجديد بالإنجليزية)، 19 يوليو 2023: تحليل المعركة على موانئ اليمن ودور الإمارات في السيطرة على عدن وحضرموت وشبوة وتعز وسقطرى وميون.
الجزيرة نت، 22 يوليو 2018: تقرير السعودية والإمارات تتقاسمان كعكة النفوذ في حضرموت – تفاصيل تعطيل الإمارات لمطار الريان وميناء الضبة ومنع الصيد.
تحقيق منظمة ARIJ، مارس 2022: حظر الصيد في المهرة والمكلا منذ 2016 – يشرح منع الصيادين بين مطار الريان وميناء الضبة وتأثيره وتوثيق إنشاء 11 موقعًا عسكريًا قرب موانئ المهرة.
صحيفة الصباح اليمني، 13 نوفمبر 2017: خبر الإمارات تسيطر على ميناء نشطون بالمهرة – يصف وصول قوات إماراتية ونخبة حضرمية إلى نشطون وتوترها مع عُمان.
قناة بلقيس – أخبار سياسية، 17 يونيو 2024: وثيقة تكشف سعي الإمارات للعودة لإدارة ميناء عدن – توضح رؤية الإمارات لميناء عدن كتهديد لموانئ دبي وسعيها المبكر لتعطيله والسيطرة عليه عبر الحلفاء.
وكالة أسوشييتد برس/الجزيرة الإنجليزية، 25 مايو 2021: تقرير القاعدة الغامضة في جزيرة ميون – يؤكد وقوف الإمارات خلف بناء مدرج عسكري في ميون وتحليل أهدافه الإستراتيجية.
يمن مونيتور (نسخة إنجليزية)، 21 يونيو 2024: عودة الإمارات لميناء عدن تثير غضب المسؤولين – يتضمن بيان 24 عضو شورى ضد تأجير ميناء عدن وذكر economists لنية الإمارات تقييد نشاط عدن لإبقاء موانئها نشطة، وتفاصيل تدهور أداء ميناء عدن 57% أثناء عقد موانئ دبي.
وكالة أسوشييتد برس، 8 ديسمبر 2023 (نشرها AP News): بناء مدرج على جزيرة عبد الكوري وعبارة I LOVE UAE – دليل حديث على ترسيخ الوجود الإماراتي العسكري في أرخبيل سقطرى.

تم طباعة هذه الخبر من موقع هنا عدن https://www.huna-aden.com - رابط الخبر: https://www.huna-aden.com/news86536.html