بقلم: علي الحداد
في حال أعلنت إيران امتلاكها للسلاح النووي، فإن العالم سيدخل مرحلة جديدة من التوتر الجيوسياسي، تنكسر فيها القواعد التقليدية لضبط التسلح وتوازن الردع، وتُعاد فيها صياغة منظومة الأمن الإقليمي والدولي على أسس مختلفة تمامًا. هذا الإعلان ـ وإن كان حتى الآن مجرد افتراض ـ لا يمكن النظر إليه كخطوة معزولة أو مفاجئة، بل كذروة مسار طويل من التوترات، المراوغات الدبلوماسية، والضغوط المتبادلة بين طهران والغرب.
منذ توقيع الاتفاق النووي عام 2015، بدا أن إيران، رغم تاريخها الحافل بالتحدي، مستعدة لقبول قيود محددة على برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها. لكن هذا التوازن الهش بدأ في الانهيار مع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018، وإعادة فرضها العقوبات المشددة، وهو ما دفع إيران إلى تقليص التزاماتها تدريجيًا، ورفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى مستويات تقترب من العتبة العسكرية. ومن هناك، بدأ العالم يقترب من نقطة اللاعودة.
إذا ما قررت إيران إعلان امتلاكها قنبلة نووية، فإننا لا نتحدث فقط عن تغيير في أدوات القوة، بل عن تحول نوعي في فلسفة الردع الإقليمي. السلاح النووي في حد ذاته ليس مجرد أداة عسكرية، بل هو ورقة سياسية كبرى تمنح حامله وزنًا استراتيجيًا جديدًا، وقدرة على المناورة والمساومة في ملفات كثيرة. بالنسبة للنظام الإيراني، سيكون هذا الإعلان بمنزلة تتويج لتحدٍّ طويل مع القوى الغربية، ورسالة واضحة بأن طهران لم تُرغم ولم تُهزم، بل فرضت معادلتها الخاصة.
في الداخل الإيراني، سيُقدَّم هذا الحدث كإنجاز تاريخي، يعزز من تماسك النظام، ويوفر له حصانة معنوية أمام الرأي العام المحلي الذي يعيش منذ سنوات تحت وطأة العقوبات، والضغوط الاجتماعية، والانقسامات السياسية. أما على الصعيد الخارجي، فإن مجرد دخول إيران رسميًا إلى نادي القوى النووية سيجعل التعامل معها أمرًا مختلفًا كليًا. المفاوضات معها لن تعود قائمة على محاولة نزع القدرات، بل على كيفية ضبطها أو احتوائها. والخطاب السياسي الذي كان يسعى إلى منعها من تجاوز الخط الأحمر، سيضطر إلى الاعتراف بالواقع والتعامل معه بحذر شديد.
أما الأثر الإقليمي، فسيكون بالغ العمق. فإيران، بسلاحها النووي، ستدفع قوى إقليمية أخرى إلى مراجعة مواقفها الاستراتيجية. من المتوقع أن تنشأ ديناميكيات جديدة، عنوانها السعي إلى التوازن عبر امتلاك قدرات نووية مماثلة، ولو تحت مظلة سلمية في البداية. وهذا ما قد يؤدي إلى بداية سباق نووي غير معلن في المنطقة، حيث تصبح التكنولوجيا النووية جزءًا من الحسابات الأمنية لكثير من العواصم التي ستعتبر أن ميزان الردع لم يعد مستقرًا بيد طرف واحد.
النتائج على النظام الدولي لن تكون أقل خطورة. إذ أن امتلاك إيران، كدولة موقعة على معاهدة عدم الانتشار النووي، للسلاح النووي، سيشكل سابقة خطيرة تهدد بانهيار المعايير القائمة منذ أكثر من نصف قرن. فالمعادلة التي ارتكزت عليها تلك المعاهدة كانت قائمة على تعهد الدول غير النووية بعدم السعي لامتلاك السلاح، مقابل التزام الدول الكبرى بنزع التسلح تدريجيًا، وتقديم الدعم للتكنولوجيا النووية السلمية. لكن اختراق هذه المعادلة من قبل دولة بارزة في الشرق الأوسط سيبعث برسالة إلى العالم مفادها أن من يمتلك الإرادة والوقت يمكنه الوصول إلى القنبلة، وأن العقوبات أو التهديدات وحدها لا تكفي للردع.
أمام هذا الواقع الجديد، ستجد القوى الكبرى نفسها أمام خيارات محدودة، لا تخلو من التناقضات. الولايات المتحدة، التي وضعت على رأس أولوياتها منع إيران من امتلاك هذا النوع من السلاح، ستواجه مأزقًا استراتيجيًا حرجًا. فالخيار العسكري بات أكثر تكلفة وتعقيدًا، خاصة في ظل امتلاك إيران المحتمل لسلاح رادع، في حين أن التفاوض مع طرف نووي يحمل طابعًا مختلفًا تمامًا، حيث التوازن ليس في التفاصيل، بل في امتلاك القدرة القصوى على التدمير. أما القوى الأخرى، مثل روسيا والصين، فقد ترى في هذا التحول فرصة لإعادة ترتيب النفوذ، خاصة إذا تمكّنت من التوسط أو لعب دور في إدارة الأزمة الجديدة.
ومن بين أهم التحديات التي ستنشأ من هذا السيناريو هو اتساع دائرة اللاعبين في معادلة الردع، بما يتجاوز الدول إلى الجهات غير الحكومية المتحالفة مع إيران، أو التي تقع ضمن نفوذها. وجود سلاح نووي في بلد مرتبط بعلاقات وثيقة مع مجموعات مسلحة غير نظامية، يعقّد المشهد الأمني بشكل غير مسبوق. فحتى لو بقي السلاح تحت السيطرة المباشرة للدولة، فإن الثقة الدولية في آليات هذه السيطرة ستظل محدودة، وستكون هناك دائمًا شكوك بشأن إمكان استخدامه كورقة ضغط في أوقات الأزمات أو كوسيلة تهديد غير مباشر.
في نهاية المطاف، فإن إعلان إيران امتلاك السلاح النووي – إذا حدث – لن يكون مجرد انتهاك لمعاهدة دولية، بل سيكون إعلانًا عن نهاية مرحلة تاريخية بأكملها، ودخول مرحلة جديدة تقوم على حسابات مختلفة، وردع غير متوازن، ومخاطر أكبر على استقرار المنطقة والعالم. هو سيناريو يعيدنا إلى السؤال الجوهري الذي لم يُجب عنه العالم منذ انتهاء الحرب الباردة: كيف نمنع انتشار السلاح النووي في عالم لا تملك فيه الدول الكبرى وحدها حق القوة، ولا تحتكر فيه الشرعية الدولية؟ وإذا ما أصبح النووي ورقة متاحة لأكثر من طرف إقليمي، فهل سيكون الردع كافيًا لضبط الفوضى؟ أم أننا أمام زمن تتقاطع فيه المصالح والنوايا والتهديدات، دون أن يكون هناك سقف واضح لنهاية اللعبة؟
رغم تقدم إيران الملحوظ في تخصيب اليورانيوم، فإن امتلاك قنبلة نووية عملية معقدة تتطلب شروطًا متعددة: الوصول إلى يورانيوم عالي التخصيب (90%) بكميات كافية، وتطوير رأس نووي صغير يمكن تركيبه على صاروخ، وإجراء اختبارات تؤكد فعالية التصميم. حتى اللحظة، لا توجد دلائل استخباراتية قاطعة تفيد بأن إيران تجاوزت كل هذه العتبات. ما تزال تعاني من صعوبات فنية ولوجستية، ورقابة دولية جزئية رغم تراجع مستوى التعاون مع الوكالة الدولية، فضلًا عن ضغوط سيبرانية وعقوبات تعرقل الحصول على المكونات الحساسة.
في حال قررت إيران الإعلان عن امتلاكها للسلاح النووي، فإن المجتمع الدولي سيواجه معضلة كبرى. الولايات المتحدة قد تتجه إلى تعزيز الردع التقليدي في الخليج، مع تقليص احتمالية الضربة العسكرية المباشرة وزيادة فرص التفاوض بشروط جديدة. إسرائيل ستبقى الأكثر تهديدًا من الناحية الأمنية وقد تبادر بعمل عسكري خاطف إذا رأت أن نقطة اللاعودة قد تم تجاوزها. السعودية وتركيا ومصر قد تطالب بحق الردع المتوازن، إما عبر توسيع برامج نووية مدنية أو عبر ترتيبات أمنية مع قوى نووية كبرى. أما روسيا والصين، فقد تستغلان الأزمة لتوسيع نفوذهما في المنطقة من خلال الوساطة أو إعادة صياغة أطر الضبط الاستراتيجي.
على مستوى النظام الدولي، فإن امتلاك دولة موقعة على معاهدة عدم الانتشار لسلاح نووي سيُضعف من مصداقية المعاهدة ويشجع دولًا أخرى على السير في المسار ذاته، خاصة إذا لم يكن هناك رد حاسم. وهذا يضع العالم أمام واقع نووي جديد تتساقط فيه الخطوط الحمراء، ويصبح فيه الردع عملية محفوفة بعدم اليقين، بدلًا من أن يكون ضمانًا للاستقرار .