بقلم : علي الحداد
في 13 يونيو 2025، دشّنت طهران معادلة ردع جديدة بضربة نوعية إلى العمق الإسرائيلي عبر عملية “الوعد الصادق 3”، منهية بذلك مرحلة “الضربات بلا رد”، وراسيةً لتوازن قوى إقليمي غير مسبوق. الضربة التي استهدفت أهدافًا عسكرية واستخباراتية حساسة في تل أبيب ومحيطها، تمثّل لحظة فارقة في تاريخ الصراع الإيراني–الإسرائيلي، وتعيد رسم قواعد الاشتباك في الشرق الأوسط.
لسنوات، حافظت المواجهة بين إيران وإسرائيل على طابع “حروب الظل” غير المعلنة، من خلال ضربات إسرائيلية استباقية في سوريا ولبنان وغزة، قابلتها إيران بسياسات ضبط النفس وبناء الردع طويل الأمد. لكن التصعيد الإسرائيلي الأخير، وخاصة الهجمات التي طالت منشآت داخل طهران، حوّل التوتر إلى مواجهة مباشرة وعلنية. عملية “الوعد الصادق 3” لم تكن مجرد ردّ عسكري، بل إعلان استراتيجي عن نهاية احتكار إسرائيل للمبادرة، وترسيخ لمعادلة جديدة: إذا ضُرب العمق الإيراني، فإن الرد سيكون في قلب تل أبيب.
بحسب تقارير إعلامية غربية، أصابت الضربات الإيرانية مواقع عسكرية واستخباراتية مهمة، أبرزها مقر “الكيرياه” في تل أبيب، إضافة إلى أهداف في رامات غان وريشون لتسيون. الهجمات، التي استخدمت أكثر من 150 صاروخًا باليستيًا وطائرات مسيّرة، أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة أكثر من 90، رغم تفعيل منظومات دفاعية متقدمة مثل “القبة الحديدية”، و”Arrow 3”، و”THAAD”. العملية كشفت عن ثغرات خطيرة في الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وأكدت أن الردع الإيراني لم يعد رمزيًا، بل قائم على قدرة تنفيذية حقيقية تُفاجئ وتُوجّه حيث تختار طهران.
وقد استمرت العملية على مدى يومين في موجات متتالية، شملت جولات إضافية من الطائرات المسيّرة التي استهدفت مواقع في وسط إسرائيل، وتسببت في أضرار مادية جسيمة على الرغم من اعتراض عدد كبير منها. وأكدت طهران أن هذه الضربات ليست سوى بداية، في إشارة واضحة إلى أنها مستعدة لإطالة أمد التصعيد إذا اقتضى الأمر. في المقابل، هدد وزير الدفاع الإسرائيلي بأن “طهران ستدفع الثمن غاليًا”، ما يفتح المجال لتصعيد مفتوح في حال نفّذت إسرائيل تهديداتها بهجمات على منشآت إيرانية داخلية.
ما يميّز الرد الإيراني ليس فقط دقة الصواريخ أو حجمها، بل عقيدته الردعية الأشمل، التي تعتمد على شبكة حلفاء إقليميين فاعلين، من بيروت إلى غزة، ومن صنعاء إلى بغداد، وإرادة سياسية نابعة من عقيدة ثورية ترى أن الأمن يُنتزع لا يُمنح، وخطاب سياسي واضح يوازن بين تجنّب الحرب الشاملة والردع الفعّال. هذا النموذج من الردع لا يرتكز على تفوق تسليحي صرف، بل على توازن إرادات، وقدرة على تغيير قواعد اللعبة بأدوات محدودة نسبيًا لكنها استراتيجية في أثرها.
الضربة الإيرانية تسببت في ارتباك كبير داخل إسرائيل، حيث نزح الآلاف من تل أبيب، وعمّت حالة من الفوضى المعلوماتية وسط تسريبات متضاربة حول حجم الأضرار. شُكّك بفعالية المنظومات الدفاعية، وبرزت أصوات في الإعلام الإسرائيلي تتحدث عن “أكبر اختراق استراتيجي منذ حرب أكتوبر”. في المقابل، بثت القيادة الإيرانية رسائل واضحة: العملية ليست انتقامًا بل تثبيت لقواعد اشتباك جديدة، والردّ المقبل سيكون أقسى إذا تكررت الاعتداءات.
لم تبقَ المواجهة في إطارها العسكري فقط. في إيران، ورغم التحديات الداخلية، نظر جزء واسع من الشارع إلى الردّ كمصدر فخر واستعادة هيبة. أما في إسرائيل، فقد تراجعت البورصة بشكل حاد، وانهارت مؤشرات الثقة الاقتصادية، مع دعوات لتعزيز الجبهة الداخلية وترميم الخطاب السياسي. دوليًا، ارتفعت أسعار النفط بنسبة 5% خلال 48 ساعة من الهجوم، وسط مخاوف من اضطراب الملاحة في مضيق هرمز أو استهداف منشآت طاقة في الخليج، ما يهدد بإشعال أزمة اقتصادية عالمية.
تفاعل الشارع العربي والإسلامي مع الضربة جاء متفاوتًا؛ ففي فلسطين ولبنان واليمن، اعتُبرت العملية امتدادًا لمحور مقاومة يفرض توازنًا جديدًا. في دول الخليج، ساد الحذر، مع حرص على الحياد وعدم الانزلاق في محور التوتر. شبكات التواصل الاجتماعي ضجّت بخطاب رمزي يمجّد “كسر اليد الطويلة لإسرائيل”، مقابل أصوات تحذّر من تصعيد لا تُحمد عقباه.
الردود الدولية عكست انقسامًا واضحًا. واشنطن والاتحاد الأوروبي دعوا إلى التهدئة وأكدا “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”، دون دعم تصعيدي مباشر، فيما شاركت القوات الأميركية في اعتراض بعض الهجمات دون تدخل مباشر في المعركة. بريطانيا، بدورها، نشرت مقاتلات في المنطقة لحماية مصالحها. روسيا والصين حذّرتا من تحول الصراع إلى حرب إقليمية، وأكدتا أهمية العودة للتفاوض. عواصم إسلامية كـ بغداد ومسقط وإسلام أباد، اعتبرت الضربة الإيرانية “ردًا مشروعًا على عدوان موثق”. أما الأمم المتحدة فاكتفت ببيانات “قلق عميق”، ما يعكس محدودية تأثيرها الفعلي.
المواجهة الأخيرة انعكست أيضًا على المسار النووي الإيراني، حيث ألغت طهران جولة تفاوض كانت مقررة في مسقط مع الوفد الأميركي، احتجاجًا على ما وصفته بـ”العدوان الوحشي” الذي قاد إلى التصعيد الأخير، مما يؤكد أن تداعيات العملية تتجاوز البعد العسكري لتطال مستقبل التفاوض والاتفاق النووي.
المشهد الإقليمي الآن يقف على مفترق طرق، وتتراوح السيناريوهات بين تهدئة مشروطة بوساطات إقليمية، خاصة من قطر وسلطنة عمان، وتصعيد موضعي عبر حلفاء الطرفين في غزة ولبنان والعراق، دون انزلاق لحرب كبرى. كما يظل احتمال رد إسرائيلي مباشر قائمًا، ما قد يفتح جبهات متعددة. غير أن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو توازن ردع طويل الأمد، يقوم على الردع المتبادل وضبط السلوك العدواني دون انفجار شامل.
عملية “الوعد الصادق 3” لم تكن مجرد عمل عسكري، بل لحظة استراتيجية أعادت صياغة معادلة القوة في الشرق الأوسط. إيران أرسلت رسالة واضحة: لم تعد إسرائيل تملك حرية الضرب دون ثمن، ولم يعد الردع حكرًا على طرف واحد. في زمن الطائرات المسيّرة والصواريخ الدقيقة، وتحوّل العقيدة العسكرية إلى شبكات مقاومة لا مركزية، باتت القوة ترتكز على الإرادة والشرعية، لا فقط على الدعم الدولي. ويبقى السؤال مفتوحًا: هل نشهد ميلاد مرحلة توازن رادع ومستقر، أم انزلاقًا بطيئًا نحو مواجهة لا يريدها أحد، لكن لا يستطيع أحد منعها .