الرئيسية - أخبار محلية - مصر وإيران في زمن إعادة التموضع: بين ضرورات التقارب وهواجس النفوذ

مصر وإيران في زمن إعادة التموضع: بين ضرورات التقارب وهواجس النفوذ

الساعة 12:15 صباحاً (هنا عدن/ خاص )

مصر وإيران في زمن إعادة التموضع: بين ضرورات التقارب وهواجس النفوذ

بقلم: علي الحداد



في ظل التحولات الإقليمية المتسارعة التي يشهدها الشرق الأوسط، يتجه التقارب المصري الإيراني ليكون أحد أبرز المؤشرات على إعادة تشكيل ميزان القوى في المنطقة. هذا التقارب، الذي يخرج تدريجياً من عباءة الجمود التاريخي، لا يمكن فهمه إلا ضمن سياق سياسي واستراتيجي أوسع، يعكس ديناميكيات جديدة في النظام الإقليمي، وتبدلات في أولويات الدول الفاعلة.

لم تكن العلاقات المصرية الإيرانية يوماً عادية، بل مثّلت على مدى قرن من الزمن مرآة لصراعات الهوية، والتنافس الجيوسياسي، والتحالفات المتغيرة. فقد مرت بفترات تقارب رمزي، كما في الحقبة الملكية حين تزوجت الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق من الشاه محمد رضا بهلوي، لكنها سرعان ما تحولت إلى قطيعة عميقة بعد الثورة الإسلامية عام 1979. استقبال مصر للشاه الهارب، وتوقيعها اتفاقية كامب ديفيد، كانا كافيين لقطع العلاقات وبدء مرحلة طويلة من التوتر، ازدادت حدتها مع دعم القاهرة لبغداد خلال الحرب العراقية الإيرانية. ورغم محاولات محدودة لإعادة التواصل في تسعينيات القرن الماضي، فإن العلاقات لم تتجاوز الطابع البروتوكولي حتى في لحظات الانفتاح النسبي، كما حدث في عهد محمد مرسي، حين زار الرئيس الإيراني أحمدي نجاد القاهرة عام 2013.

ما يدفع هذا التقارب اليوم ليس فقط الرغبة في استعادة قنوات الحوار، بل جملة من التحولات البنيوية في الإقليم. من أبرزها الاتفاق السعودي الإيراني بوساطة صينية عمانية عام 2023، والذي أطلق دينامية تهدئة شملت قوى عربية وإقليمية. مصر، التي تتابع عن كثب تحولات موازين القوى، وجدت في هذا الانفتاح فرصة لإعادة تموضعها ضمن مشهد إقليمي يتغير بسرعة. كما أن تراجع الدور الأمريكي التقليدي في ضمان أمن المنطقة، وتصاعد الأدوار الآسيوية، وتزايد التنافس التركي الإسرائيلي في ملفات مثل غزة وسوريا، كلها عوامل تدفع القاهرة نحو تبني سياسة خارجية أكثر استقلالية وتوازناً.

في المقابل، ترى طهران في مصر بوابة مهمة لاستعادة حضورها في العالم العربي، وللخروج من عزلتها المتفاقمة جراء العقوبات الغربية. فإيران، المحاصرة اقتصادياً، تحتاج إلى شركاء إقليميين يملكون الشرعية والمكانة الجغرافية الاستراتيجية التي تملكها مصر، خصوصاً مع أهمية قناة السويس والموانئ المصرية في تسهيل التجارة نحو إفريقيا وأوروبا. كما أن الطرفين يشتركان في مصالح أمنية في ملفات مثل سوريا، حيث يدعمان بقاء الدولة المركزية، ويواجهان تهديدات من الجماعات المتطرفة التي تنتشر في مناطق النزاع. هذه التقاطعات تفتح نوافذ لتعاون محدود لكنه فعّال في مجالات مكافحة الإرهاب وتنسيق المواقف الإقليمية.

رغم هذه الدوافع، لا يمكن تجاهل حجم التحديات التي تعترض هذا المسار. فعلى المستوى الأيديولوجي، لا تزال الفجوة العقائدية بين النظام الإيراني ذي الخلفية الشيعية الثورية، والدولة المصرية ذات المرجعية السنية الأزهرية، أحد أكبر العقبات. هناك حساسية شديدة في القاهرة من أي نفوذ شيعي داخلي، وهي حساسية تدعمها مؤسسات الدولة الدينية والأمنية. كما أن السياسة الإيرانية في دعم جماعات مسلحة كالحوثيين وحزب الله تثير قلق مصر، التي ترى في هذه الأذرع تهديداً لوحدة الدول العربية واستقرارها. إضافة إلى ذلك، تأتي الضغوط الخارجية في مقدمة العوائق، إذ أن الولايات المتحدة التي تقدم مساعدات عسكرية ضخمة لمصر، وإسرائيل التي ترتبط باتفاقيات أمنية وثيقة معها، لا تخفيان قلقهما من أي تقارب مع طهران. أما الخليج العربي، وخصوصاً السعودية والإمارات، اللتان تشكلان ركيزة أساسية للاقتصاد المصري، فإنهما تنظران بعين الريبة إلى أي انفتاح مصري على إيران، خصوصاً في ظل تصدعات بدأت تظهر في العلاقات الخليجية المصرية حول قضايا مثل التطبيع، وسد النهضة، وملف غزة.

ورغم هذه التحديات، يبقى الاقتصاد أحد أهم محركات التقارب. مصر بحاجة ماسة إلى تنويع مصادرها التمويلية، وتقليل اعتمادها على الدعم الخليجي، خاصة في ظل الشروط المشددة للمؤسسات الدولية. التعاون مع إيران، إذا ما تم ضبطه بعناية، قد يتيح فرصاً في مجالات مثل تجارة الطاقة، والصناعات الدوائية، والاستثمار في البنية التحتية. قناة السويس تمثل بدورها مصلحة مشتركة، إذ يمكن أن تتحول إلى ممر حيوي لصادرات إيران إذا تم تجاوز القيود القانونية المفروضة بسبب العقوبات. أما السياحة الدينية، فهي فرصة واعدة إذا تم التحكم بها أمنياً وثقافياً، خاصة أن طهران عبّرت أكثر من مرة عن رغبتها في تنظيم زيارات إلى مقامات آل البيت في القاهرة، والتي قد تمثل رافداً للعملة الصعبة دون المساس بالنسيج المجتمعي.

في هذا الإطار، تتبنى القاهرة نهجاً دبلوماسياً محسوباً يعرف في الأدبيات السياسية باسم “التقارب المراقب”. فلا هي تقطع الطريق على أي فرصة للتعاون، ولا هي تندفع إلى إعادة تطبيع كامل للعلاقات. ويبدو أن هذا النهج هو الأنسب حالياً بالنظر إلى التوازنات الحساسة التي تحكم المشهد المصري، داخلياً وخارجياً. فبينما تحاول إيران تسريع خطوات التقارب، عبر تصريحات رسمية تؤكد قرب إعادة فتح السفارات، تفضل مصر الإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة دون إعلان قرارات سياسية كبرى، في انتظار نتائج ملموسة على الأرض، وخصوصاً في الملفات الأمنية الإقليمية، كسوريا واليمن وغزة.

أما على المستوى الأمني، فالتعاون المحتمل يظل مشروطاً بتحقيق حد أدنى من الثقة، ووقف التدخلات الإيرانية في الشؤون العربية. مصر حريصة على حماية أمن البحر الأحمر، وتأمين قناة السويس، وقد تكون مستعدة للتنسيق مع إيران بشرط توقف دعمها للحوثيين الذين يشكلون تهديداً مباشراً للملاحة الدولية. كذلك، فإن التعاون في مكافحة الإرهاب قد يكون نقطة انطلاق فعلية إذا أبدت طهران استعداداً لتبادل المعلومات في مناطق النزاع، وتحديداً في سيناء وسوريا. لكن هذا النوع من التعاون يظل هشاً، وقابلاً للتعطيل عند أول أزمة أو تصعيد.

من ناحية أخرى، تعوّل مصر على أن التقارب مع إيران قد يمنحها هامشاً أكبر في التحرك الإقليمي، خاصة في ظل احتدام التنافس بين تركيا وإيران في سوريا، وتحول العراق إلى ساحة نفوذ متشابكة. كما أن هذا التقارب قد يعزز من دور مصر كوسيط إقليمي، خصوصاً إذا لعبت دوراً في تهدئة التوترات بين طهران وبعض العواصم الخليجية. غير أن هذه الحسابات مرتبطة بتوازن دقيق، لأن انزلاق مصر نحو محور واضح مع إيران قد يكلفها الكثير على صعيد تحالفاتها الخليجية والغربية.

المشهد المستقبلي مفتوح على عدة سيناريوهات، أكثرها ترجيحاً حالياً هو سيناريو التقارب الجزئي المدروس، الذي يتضمن تحسين العلاقات الدبلوماسية تدريجياً، وتوسيع التعاون الاقتصادي في ملفات غير حساسة، مع الإبقاء على ملفات الأمن والعقيدة في دائرة التفاوض الهادئ وغير المعلن. أما سيناريو التقارب الكامل، الذي يشمل إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة وتوقيع اتفاقيات أمنية أو عسكرية، فيظل مرهوناً بتغيرات جذرية في توازن القوى الإقليمي. وفي المقابل، لا يُستبعد تماماً سيناريو الانتكاسة، في حال فشل التسويات الإقليمية، أو تصعيد التوتر في البحر الأحمر أو غزة، أو وصول إدارة أمريكية جديدة تتبنى سياسة أكثر عدائية تجاه إيران.

إن مصر اليوم تجد نفسها أمام فرصة استراتيجية لإعادة صياغة موقعها في النظام الإقليمي، ولكنها تدرك في الوقت ذاته أن أي خطوة غير محسوبة قد تُفقدها رصيداً سياسياً واقتصادياً ثميناً. لذلك، فإن مقاربة “الانفتاح المنضبط” تظل الخيار الأكثر واقعية، وهي تقوم على موازنة دقيقة بين المصالح والقيود، بين الرغبة في استغلال الفرص والحاجة إلى تجنب المخاطر. من هنا، فإن الطريق نحو علاقات مصرية إيرانية مستقرة وشاملة لن يكون مفروشاً بالورود، بل يتطلب دبلوماسية رفيعة، وذكاء استراتيجي، وقدرة على إدارة التناقضات دون السقوط في فخ المحاور .