بقلم : علي الحداد
منذ اندلاع النزاع المسلح في اليمن عام 2014، تحولت جماعة “أنصار الله” المعروفة إعلامياً بـ”الحوثيين” إلى أحد أبرز الفاعلين السياسيين والعسكريين في البلاد، بل وفي الإقليم بأسره. ومع سيطرتهم على العاصمة صنعاء وتوسّعهم إلى مناطق واسعة، لم يعد ممكنًا التعامل مع الجماعة كظاهرة محلية بحتة، بل كمركّب سياسي وعسكري تشكّل في بيئة يمنية مأزومة، وتغذّى على تحالفات داخلية ودعم خارجي وتناقضات دولية. هذه التركيبة المعقّدة تفرض قراءة متعددة الأبعاد لصعود الجماعة، بعيدًا عن التفسيرات الاختزالية التي تحصرها إما في ثورة محلية ضد التهميش، أو في مؤامرة إقليمية تابعة لمحور خارجي.
تعود جذور الجماعة إلى حركة “الشباب المؤمن”، التي نشأت في محافظة صعدة خلال تسعينيات القرن الماضي كحركة دينية وثقافية زيدية تسعى لحماية الهوية المذهبية في وجه المد السلفي المدعوم من الدولة وبعض المؤسسات الخليجية. غير أن الأحداث المتسارعة بعد 2004، لا سيما مقتل مؤسسها حسين بدر الدين الحوثي في مواجهة مع القوات الحكومية، دفعت بالحركة نحو العمل المسلح، وتموضعت تدريجيًا كتنظيم عسكري ذي طموح سياسي. عوامل محلية عديدة ساعدت على بروز الجماعة، من بينها هشاشة الدولة اليمنية، التهميش الطويل لمناطق الشمال، وغياب التنمية، إلى جانب الفراغ الأمني والسياسي الذي أعقب ثورة 2011.
لكن صعود الحوثيين لم يكن مجرد نتاج لهذه العوامل الداخلية. فبعد تنحي الرئيس السابق علي عبدالله صالح عام 2012، دخلت البلاد مرحلة انتقالية هشة، وتخلّى عنه حلفاؤه التقليديون، ليجد نفسه في عزلة سياسية. هذا ما دفعه إلى عقد تحالف تكتيكي مع الحوثيين، تمثّل في إسقاط حكومة عبدربه منصور هادي وإضعاف حزب الإصلاح. هذا التحالف، رغم ما بدا عليه من تناقض أيديولوجي، حقق اختراقًا كبيرًا بتمكين الحوثيين من دخول صنعاء دون مقاومة تُذكر، عبر وحدات عسكرية وأمنية كانت ما تزال تدين بالولاء لصالح. تم تسليم الجماعة معسكرات الحرس الجمهوري، قواعد صاروخية، وحدات دفاع جوي، وأجهزة استخبارات، ما منحها ترسانة غير مسبوقة أسست لتفوّقها العسكري لاحقًا.
غير أن هذا التحالف لم يكن مستدامًا. فقد انقلب إلى صراع دموي أواخر عام 2017، عندما حاول صالح إعادة تموضعه السياسي والتفاوض مع التحالف العربي، ما اعتبره الحوثيون خيانة، وانتهى باغتياله. وهو ما يعكس هشاشة الاصطفافات داخل اليمن، ويفضح الطابع المصلحي القصير الأمد لهذا النوع من التحالفات، حيث يسهل تفككها حين تتعارض حسابات البقاء مع طموحات الهيمنة.
ومع توسّع سيطرة الحوثيين جغرافيًا، وتعزيز قدراتهم العسكرية، بدأت الأنظار تتجه إلى الدور الإيراني. رغم أن الحوثيين يتبعون المذهب الزيدي، الذي يختلف عن التشيّع الإثني عشري الذي تعتنقه إيران، إلا أن التقارب الأيديولوجي في الخطاب، والشعارات المناهضة لأمريكا وإسرائيل، والعلاقات مع طهران، دفعت كثيرين للربط بين الطرفين. وقد وثّقت تقارير أممية وغربية عدة أشكال من الدعم الإيراني للجماعة، بما في ذلك تهريب الأسلحة والصواريخ والطائرات المسيّرة، وتقديم تدريب تقني، ومساندة لوجستية عبر شبكات تهريب بحرية. هذا الدعم، رغم كونه ليس علاقة تبعية تامة كما في حالة حزب الله، ساهم في تحويل الحوثيين إلى فاعل إقليمي له تأثير مباشر على الأمن الخليجي، والملاحة في البحر الأحمر، وأعاد تشكيل التوازنات العسكرية في المنطقة.
في موازاة ذلك، فإن تعاطي المجتمع الدولي مع الصراع، وخاصة من خلال مبعوثي الأمم المتحدة، لم يكن بمنأى عن الجدل. فبينما سعت المنظمة إلى أداء دور الوسيط، وفرضت على نفسها التواصل مع جميع أطراف النزاع، وخصوصًا الحوثيين، اتهمت أطراف في الحكومة اليمنية الشرعية بعض المبعوثين بالانحياز، أو تقديم تنازلات مجانية للجماعة، كما حدث مع اتفاق ستوكهولم عام 2018. هذا الاتفاق، الذي أوقف العملية العسكرية الكبرى في الحديدة، اعتبره البعض بمثابة انتصار سياسي للحوثيين، لأنه ساوى بينهم وبين الحكومة المعترف بها دوليًا، دون اشتراطات واضحة تتعلق بحقوق الإنسان أو وقف تجنيد الأطفال أو احترام القانون الدولي.
إن فشل التحالف العربي في استكمال السيطرة على مدينة الحديدة رغم التقدّم الكبير الذي أحرزه هناك، يسلّط الضوء على تعقيدات الميدان. فالمعركة توقفت فجأة رغم قرب الحسم، تحت ضغط دولي كثيف، خوفًا من كارثة إنسانية تهدد حياة ملايين المدنيين الذين يعتمدون على الميناء لإيصال الغذاء والدواء. كما أن الإمارات بدأت آنذاك في سحب قواتها تدريجيًا من الساحل الغربي، مما أضعف الزخم العسكري. هذه الحسابات الإنسانية والعسكرية والدولية تقاطعت لتجميد المعركة دون إنهاء الصراع، بل ربما منحت الحوثيين فرصة لترتيب صفوفهم وتعزيز مواقعهم.
ولا يمكن تجاهل مسألة فوضى السلاح في فهم مكامن القوة الحوثية. فخلال الفترة 2013–2014، كانت القوات المسلحة اليمنية تتلقى دعمًا كبيرًا من السعودية والولايات المتحدة لتعزيز قدراتها، لكن مع سقوط صنعاء، وقعت غالبية هذه الأسلحة – بما فيها معدات أمريكية متطورة – في أيدي الحوثيين. ضعف الرقابة، والانقسام داخل المؤسسة العسكرية، وتغلغل العناصر الموالية لصالح، كل ذلك أدى إلى استيلاء الجماعة على مخازن ضخمة من السلاح، بعضها تسرب لاحقًا إلى السوق السوداء أو إلى فصائل أخرى، ما زاد من تعقيد الصراع، وجعل من حسمه أمرًا أكثر كلفة.
المشهد اليمني، إذن، لا يُفهم من خلال منظور واحد. جماعة “أنصار الله” ليست فقط نتاج التهميش، ولا مجرد امتداد لإيران، بل تمثل تراكبًا مركبًا لعوامل محلية وإقليمية ودولية. فهمها يتطلب رؤية شاملة لبنية الدولة اليمنية المنهارة، ومظالم الشمال، والتحالفات المتغيرة، وفوضى التسليح، والتوظيف السياسي للوساطة الدولية. وهو ما يجعل من استمرار الحرب، في أحد أبعاده، نتيجة لعجز داخلي وتواطؤ خارجي وصمت أممي، أكثر من كونه حتمية ناتجة عن توازن قوى بسيط.
وفي نهاية المطاف، فإن التعامل مع الحوثيين كقوة قائمة بحكم الواقع لا يعني شرعنة مشروعهم، كما أن تجاهل حضورهم أو التعامل معهم باعتبارهم مجرّد وكلاء لإيران لا يخدم مستقبل اليمن. الحل لن يكون بالقوة وحدها، بل بإعادة قراءة الصراع على أسس واقعية، وفهم البُنى التي سمحت بصعود هذه الجماعة، وتفكيك شبكة المصالح التي لا تزال تُغذّي بقاءها. فقط بهذه المقاربة المعقدة والمتوازنة يمكن تصور مسار نحو السلام، يعيد لليمنيين دولتهم، ويُنهي دوّامة العنف التي لم تكتب فصولها الأخيرة بعد .