الرئيسية - أخبار محلية - صواريخ بلا بوصلة: الحوثيون بين تثبيت السلطة وخدمة للخصم

صواريخ بلا بوصلة: الحوثيون بين تثبيت السلطة وخدمة للخصم

الساعة 07:11 صباحاً (هنا عدن/ خاص )

 

 



 

بقلم: علي الحداد

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، دخلت جماعة “أنصار الله” (الحوثيون) على خط المواجهة بإطلاق صواريخ باليستية وطائرات مسيّرة باتجاه أهداف في إسرائيل، واستهداف سفن مرتبطة بها في البحر الأحمر. وبينما رُوّج لهذه العمليات باعتبارها نصرة للقضية الفلسطينية، تثير هذه الخطوة عددًا من الأسئلة الجوهرية: هل تخدم هذه التحركات فعليًا فلسطين أو اليمن؟ أم أنها تصب في مصلحة بقاء الجماعة كسلطة أمر واقع، وتُعيد تأهيل إسرائيل دوليًا عبر منحها مبرر “الدفاع عن النفس”؟

لفهم هذا السلوك، لا بد من العودة إلى طبيعة جماعة الحوثي، التي نشأت في بيئة صراع ولم تبرحها. بنيتها ليست بنية فاعل سياسي تقليدي، بل تنظيم مسلح غذّته الحروب ومنحته استمرارية. منذ سيطرتها على صنعاء عام 2014، لم تبنِ مؤسسات دولة، بل كرّست نموذجًا سلطويًا قائمًا على القمع والاقتصاد غير الرسمي والتعبئة الأيديولوجية. في هذا السياق، تمثّل الحرب الخارجية، خصوصًا ضد “العدو الإسرائيلي”، فرصة لإطالة أمد “الشرعية القتالية” والهروب من استحقاقات الداخل، لا سيما المتعلقة بالسلام وتقاسم السلطة وتقديم الخدمات. فالجماعة تدرك أن الدخول في مسار سلمي يُحتم عليها تحولات قد تهدد وجودها.

ولذلك، لا تأتي خطواتها الأخيرة دفاعًا حقيقيًا عن فلسطين بقدر ما تُوظَّف كغطاء تعبوي داخلي. فخطابها الراديكالي ضد إسرائيل هو جزء من مشروع تعبوي ، لكن الدعم ظل رمزيًا واستعراضيًا، لم يتجاوز الشعارات والصواريخ ذات الطابع الإعلامي. وبذلك تتحول القضية الفلسطينية إلى أداة لتبرير الفشل في الداخل، وقمع المعارضين، أكثر من كونها بوصلة نضال تحرري حقيقي.

ما تكشفه الأحداث الأخيرة هو مفارقة استراتيجية صارخة: فبينما تهدف الجماعة ظاهريًا إلى إضعاف إسرائيل، تُفضي أفعالها عمليًا إلى تقوية الموقف الإسرائيلي دوليًا. فالهجمات الحوثية، رغم رمزيتها، وفّرت لإسرائيل مبررًا لإعادة تفعيل سردية “الدفاع عن النفس” أمام المؤسسات الدولية، وقدّمتها كدولة مُستهدفة من جهة غير مشاركة مباشرة في حرب غزة. هذه السردية مكنت إسرائيل من الحصول على غطاء سياسي لتوسيع نطاق ردودها العسكرية، بما يشمل شن ضربات جوية على الأراضي اليمنية.

في هذا الإطار، شنت إسرائيل، بدعم ضمني من تحالفات غربية، سلسلة غارات جوية على مواقع حيوية في مناطق سيطرة الحوثيين. استُهدفت منشآت مدنية واقتصادية وبُنى تحتية حيوية، شملت مطار صنعاء الدولي، ما أدى إلى تدميره وتعطيل حركة الطيران الإنساني، وموانئ الحديدة ورأس عيسى والصليف، مما شل حركة التجارة وأوقف عمليات الاستيراد والتصدير. كذلك، تم تدمير خمس محطات كهرباء، وأُصيب مصنع إسمنت باجل ومصنع عمران بأضرار جسيمة، كما طالت الغارات شبكات المياه ومنشآت النفط في رأس عيسى، موقعة خسائر قدرت بأكثر من 1.4 مليار دولار.

هذه الهجمات كشفت هشاشة البنية التحتية اليمنية، وفاقمت من الأزمة الإنسانية في بلد يعاني أصلًا من الجوع والمرض والانهيار الاقتصادي. ارتفعت أسعار السلع بشكل حاد، وانقطعت الكهرباء والمياه عن مناطق واسعة، وتعطّلت الرحلات الجوية المخصصة لنقل المساعدات، وهو ما وضع المدنيين في قلب العاصفة دون غطاء سياسي أو إنساني.

اللافت في هذا التصعيد أن النتائج جاءت معاكسة تمامًا للخطاب الحوثي . فبدلًا من إرباك العدو أو دعم فلسطين، ساهمت الهجمات الحوثية في إضفاء شرعية على استخدام القوة من قبل إسرائيل في منطقة لم تكن طرفًا مباشرًا في النزاع، ودفعت بتحالفات دولية للتوحد خلف ذريعة “حماية الملاحة” و”ردع التهديد الإيراني”. هذه الديناميكية لا تفترض وجود تنسيق بين الحوثيين وإسرائيل، لكنها تُظهر بوضوح تقاطعًا غير مقصود في المصالح، ناجمًا عن سوء تقدير استراتيجي.

إن غياب الخطة والتكتيك المدروس يحول العمل العسكري إلى عبء سياسي. هجمات الحوثيين لم تغيّر شيئًا في معادلة غزة، ولم تُحدث ردعًا فعليًا، بل استُخدمت ضدهم كذريعة للهجوم، فكانت نتيجتها تصعيدًا دمويًا ضد اليمن . هذا النمط من السلوك يُصنَّف ضمن التكتيك المرتد والغباء السياسي ، حيث تؤدي الأفعال غير المدروسة إلى نتائج تُعزز موقع الخصم وتُجهض أي مكاسب محتملة.

في المحصلة، يُعد الشعب اليمني هو الخاسر الأكبر من هذا التصعيد، إذ تحوّل إلى ساحة انتقام إقليمي ودولي نتيجة قرارات تصدرها جماعة لا تمثل إجماعًا وطنيًا، وتتحرك بدوافع أيديولوجية تهدف إلى تثبيت سلطتها الداخلية لا تحقيق مكاسب قومية أو تحررية. أما فلسطين، فتُستغل كغطاء سياسي، لا كقضية مركزية في مشروع تحرر حقيقي.

ورغم أن فرضية وجود تنسيق بين الحوثيين وإسرائيل تفتقر إلى أي دليل واقعي، فإن الواقع لا يحتاج إلى اتفاق مباشر لتتقاطع المصالح بصورة مأساوية. السلوك الحوثي، باندفاعه وعشوائيته، أصبح ينتج تأثيرات تصب في مصلحة خصومه، وتوفر لهم الذرائع للتصعيد تحت غطاء دولي مقبول.

ختامًا، تُجسد تجربة الحوثيين كيف يمكن لشعارات المقاومة أن تتحول إلى أدوات لتبرير سلطوية داخلية، وتبرير أفعال تأتي بنتائج معاكسة. فصواريخ بلا بوصلة لا تُغيّر المعادلات، بل تعمّق المأساة، وتُبقي الشعب رهينة صراع لا يخوضه باسمه، ولا يجني منه سوى مزيد من الدمار .