من السحر إلى السقوط: نهاية عهد نتنياهو
بقلم: علي الحداد
حرب غزة، العزلة الدولية، والانقسام الداخلي يعيدون تشكيل مستقبل إسرائيل
منذ عقود، ظل بنيامين نتنياهو اللاعب الأبرز على خشبة المسرح السياسي في إسرائيل. يجيد المناورة، يتقن هندسة التحالفات، ويعرف كيف يتجاوز الأزمات ويحوّلها إلى فرص. عُرف بلقب “الساحر”، ليس فقط لطول بقائه في الحكم، بل لقدرته الاستثنائية على تفكيك الخصوم، وتوحيد أنصاره حول خطاب أمني–قومي يحاكي مخاوف الإسرائيليين ويعيد تشكيلها لخدمة مشروعه السياسي.
غير أن عام 2025 يبدو مختلفًا. فنتنياهو، رغم ما يتمتع به من خبرة ومكر سياسي، يقف الآن على حافة هاوية سياسية غير مسبوقة، تحاصره من جهاتها الأربع: قضاء يضيق عليه الخناق، حكومة متصدعة، حرب مُكلفة فشلت في تحقيق أهدافها، وعزلة دولية تتسع.
في الداخل، بدأ تحالفه الحكومي يترنح تحت وطأة التناقضات التي حاول ترويضها لسنوات. شركاؤه من اليمين الديني والقومي، مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، باتوا عبئًا عليه أكثر من كونهم دعمًا. سلوكهم الصدامي وتطرفهم اللفظي أثارا حفيظة المؤسسة الأمنية، وعمّقا أزمة إسرائيل الدولية. أما الحريديم، الذين لطالما وثقوا بنتنياهو كحامٍ لمصالحهم الدينية والاقتصادية، فقد بدأ صبرهم ينفد بسبب المماطلة في قضايا مثل قانون التجنيد. ومع تراجع شعبيته في استطلاعات الرأي، وعودة الاحتجاجات الشعبية إلى الشوارع، بات خطر الانتخابات المبكرة يلوح في الأفق، حاملاً معه احتمال السقوط الكارثي لرئيس الوزراء.
في موازاة ذلك، يلاحقه شبح القضاء بلا هوادة. فنتنياهو يواجه ثلاث قضايا فساد خطيرة تشمل الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، في محاكمات علنية مستمرة منذ سنوات. وقد فقد تدريجيًا سيطرته على الملف، لا سيما بعد أن رفضت المحكمة العليا محاولاته المتكررة لتعديل النظام القضائي بما يحدّ من استقلاليته. الإعلام العبري بدأ يتحدث عن احتمال صفقة “إقرار بالذنب” مقابل خروجه من الحياة السياسية، وهي نهاية مهينة لرجل بنى مجده على فكرة القيادة الدائمة. حتى تدخله في التعيينات الأمنية، كمحاولة فرض شخصية محسوبة عليه لرئاسة الشاباك، فُسرت كخطوة استباقية للضغط على المؤسستين الأمنية والقضائية، ما أدى إلى مزيد من الاستنفار داخل أروقة الدولة العميقة.
وفي الساحة الدولية، لم تعد الأمور أقل تعقيدًا. الحرب المتواصلة على غزة فجّرت تحوّلاً في المواقف الدولية. مذكرة التوقيف التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم حرب قلبت الطاولة عليه خارجيًا، حتى لو كانت رمزية أو غير قابلة للتنفيذ الفوري. بات حضوره مرفوضًا في عدد من الدول الأوروبية، وتقلصت دائرة الدول التي يمكنه زيارتها دون خشية الاعتقال. ومهما حاول الإعلام الإسرائيلي الرسمي التقليل من وقع القرار، فإن أروقة وزارة الخارجية تعرف جيدًا أن هذه المذكرة تمثل إدانة معنوية وسياسية لا يمكن تجاوزها بسهولة.
على الأرض، لم تحقق الحرب أهدافها. لم يتحقق هدف “تفكيك حماس”، ولا استعادت إسرائيل رهائنها، ولا استطاعت احتلال القطاع كما بشّر نتنياهو ووزراؤه. أعداد القتلى الفلسطينيين في ارتفاع مستمر، والدمار الممنهج في غزة أجّج الغضب الدولي وأضعف الموقف الأخلاقي لإسرائيل أمام الرأي العام العالمي. ومع استقالات بارزة في الجيش، مثل استقالة رئيس الأركان هرتسي هاليفي، كانت الرسالة واضحة: المؤسسة الأمنية لم تعد قادرة على تغطية قرارات نتنياهو السياسية، ولا مستعدة لدفع ثمنها.
كل هذا يحدث في ظل معارضة تعاني من غياب البوصلة. يائير لابيد، الذي قدّم نفسه كبديل وسطي، يعاني من محدودية التأثير في أوساط اليمين والناخبين المتدينين. أما بيني غانتس، الجنرال الذي يحظى باحترام المؤسسة العسكرية، فظل يراوح مكانه بين دعم قرارات الحكومة وانتقادها، ما أفقده الوضوح السياسي المطلوب لقيادة المرحلة. ورغم ارتفاع أسهمه مؤخرًا، فإن غانتس لم يطرح حتى الآن مشروعًا سياسيًا جامعًا يتجاوز حدود الرد على نتنياهو. تبدو المعارضة في صورتها الحالية أشبه بجبهة رافضة منها كقوة بديلة قادرة على احتواء الانقسامات وترميم الدولة.
أما على الجانب الفلسطيني، فقد أثّرت الحرب الأخيرة على غزة في الوعي الجمعي والسياسي بشكل عميق. فبينما يتعرض القطاع لأكبر موجة تدمير منذ عقود، يعيد الفلسطينيون، في غزة والضفة والداخل، قراءة استراتيجياتهم وسبل الصمود والمقاومة. لم تُضعف الحرب الشعور الوطني بل زادته حدة. وتنامت الأصوات الداعية للوحدة الوطنية الفلسطينية، لا سيما مع انكشاف هشاشة “حل الدولتين” وتآكل الثقة بالجهات الرسمية. كما أن التفاعل مع الفلسطينيين داخل الخط الأخضر اتخذ بعدًا جديدًا، حيث ساهمت الحرب في تعزيز الهوية الفلسطينية الجامعة، وإعادة ربط النضال المحلي بالسياق الإقليمي.
وفي الخلفية، يبقى الاقتصاد عنصرًا أساسيًا يتفاقم بصمت. الحرب استنزفت الميزانية العامة، وضربت قطاعي التكنولوجيا والسياحة، وأثرت سلبًا على الاستثمارات الأجنبية. التقارير تشير إلى تباطؤ في النمو وتزايد معدلات البطالة، خاصة بين الشباب، واتساع الفجوة بين المركز والهوامش الاجتماعية. هذا كله غذّى موجة احتجاجات جديدة، ليس فقط بسبب الحرب أو الفساد، بل نتيجة الشعور بأن الدولة تُدار بمنطق الأزمة لا بمنطق التخطيط.
حتى الولايات المتحدة، الحليف التاريخي، بدأت تلوّح بالعصا بدلًا من الجزرة، مطالبة بوقف الحرب والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، ومشيرة إلى أن دعمها ليس بلا حدود. أما أوروبا، فقد باتت مواقفها أكثر صراحة: فرنسا وألمانيا وبريطانيا بدأت تحذيراتها تتحول إلى تهديدات. تتحدث عن عقوبات وتجميد صفقات تسليح، وحتى المجر، الحليف القومي المتشدد، التزمت الصمت. لم يعد نتنياهو “رجل الغرب في الشرق الأوسط”، بل تحول إلى عبء دبلوماسي على شركائه.
ورغم ذلك، لا يزال البعض يتحدث عن نفوذ إسرائيلي مطلق في الغرب، وعن لوبيات تتحكم بالقرار الأمريكي. غير أن هذا التصور مبالغ فيه، ويتجاهل تعقيد المصالح وتعدد القوى داخل الأنظمة الغربية. صحيح أن منظمات مثل إيباك مؤثرة، وأن العلاقات بالمجمع الصناعي–العسكري الأمريكي قوية، لكن هذا لا يعني “السيطرة”. الواقع أن نتنياهو لم يعد في قلب هذه الشبكات، بل في مواجهتها، ما يجعله عرضة للتهميش مع تغير المزاج السياسي الدولي.
لكن الأخطر من كل ما سبق، هو الشرخ العميق الذي أحدثته الحرب على غزة في بنية الهوية الإسرائيلية. فلطالما قدمت إسرائيل نفسها كـ”دولة يهودية ديمقراطية”، لكنها تجد اليوم نفسها عند مفترق وجودي. تصاعدت النزعة القومية الدينية التي تبرر الحرب باسم “الحق التاريخي”، بينما أصوات ليبرالية بدأت تطرح أسئلة أخلاقية حول الاحتلال، والعنف، والتمييز. انهارت صورة “الجيش الأخلاقي”، وتراجع الإيمان بالمشروع الصهيوني ذاته لدى فئات شبابية وعسكرية متزايدة.
في موازاة ذلك، صعدت نزعات فاشية تطالب بإسكات المعارضين وتجاهر برفض الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، في انعكاس لتحول خطير في الخطاب العام نحو المزيد من الانغلاق. هذه التحولات تفكك التوافقات التي قامت عليها الهوية الإسرائيلية، وتطرح تساؤلات وجودية عميقة: هل يمكن لإسرائيل أن تبقى يهودية وديمقراطية في آن؟ وهل الهوية الوطنية باتت مهددة من الداخل أكثر من “العدو الخارجي”؟
كل هذه المعطيات تشير إلى لحظة فاصلة في مستقبل نتنياهو السياسي، وفي شكل إسرائيل القادمة. الرجل الذي صمد أمام رابين، وواجه باراك، وأسقط أولمرت، ويقفز من انتخابات إلى أخرى، يجد نفسه الآن محاصرًا بلا أفق. لا معركة عسكرية تُنقذه، ولا ورقة سياسية تمنحه الوقت، ولا تحالف حزبي يبقى متماسكًا من دونه. عام 2025 قد يكون عامًا مفصليًا، ليس فقط لنتنياهو، بل للخارطة السياسية وللذات الوطنية الإسرائيلية.
خيار الرحيل السياسي الطوعي ما زال مطروحًا، ولكن عناده التاريخي، ورغبته في ألا يُهزم، قد يدفعانه للبقاء حتى الرمق الأخير، ولو كلّف ذلك حربًا لا تنتهي، وحكومة تنهار، وعزلة دولية تتعمق. لكن الحقيقة تبقى أن السحر السياسي الذي أبقاه في السلطة بدأ ينفد، وأن كل خطوة جديدة يتخذها لا تقوده إلى تثبيت حكمه، بل تُقرّبه من نهايته. وإذا استمر في تجاهل هذا التحول، فإن خروجه من المشهد لن يكون اختيارًا، بل سيكون سقوطًا مدويًا، يكتبه التاريخ لا كما أراد، بل كما فُرض عليه .