كشفت مصادر دبلوماسية عن خفايا دعم اللوبي الإسرائيلي الإمارات لتغيير الموقف الأمريكي من السودان وكيف أعيد طبخ موقف واشنطن من التدخل العدواني لأبوظبي ودعمها ميليشيات مسلحة لتأجيج الحرب الأهلية في البلاد.
ففي لحظة مفصلية من الحرب السودانية، بدت واشنطن وكأنها تحسم أمرها: في يناير 2025، أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية محمد حمدان دقلو (حميدتي) على قائمة مجرمي الإبادة الجماعية، وجمّدت أصوله في دبي، مقر ثروته ومركز عملياته المالية.
تزامن ذلك مع تهديدات مباشرة لنظام أبوظبي بوقف صفقات السلاح، في ظل تقارير موثّقة عن إمداد الإمارات لقوات الدعم السريع بالطائرات المسيّرة والذخائر، وسط حملة ضغط متصاعدة من نواب ديمقراطيين طالبوا بحظر تصدير الأسلحة للإمارات، ما لم توقف دعمها لميليشيات دارفور المتهمة بارتكاب فظائع جماعية.
لكن هذا المشهد لم يدم طويلًا. إذ بحسب المصادر ففي 15 مايو 2025، حطّ دونالد ترامب الرئيس الأمريكي في العاصمة الإماراتية أبوظبي في زيارة كانت الأكثر تأثيرًا في إعادة صياغة الموقف الأمريكي من الحرب في السودان بعد أن أسفرت عن اتفاقات اقتصادية ضخمة شملت عقودًا للطاقة والبنية التحتية والدفاع.
وما هي إلا أيام قليلة، حتى تبدّلت لهجة واشنطن الرسمية كليًا: اختفى اسم حميدتي من بيانات الخارجية، وتحوّل التركيز فجأة إلى “ممارسات الجيش السوداني”، الذي اتُّهم في 22 مايو باستخدام أسلحة كيميائية ضد المدنيين، تبعتها عقوبات جديدة على حكومة الخرطوم.
انقلاب في السردية: من حميدتي إلى البرهان
هذا التحول لم يكن عفويًا، ولا نتيجة لمعلومات استخباراتية جديدة. بل جاء ثمرة تحرك منسق بدأ قبل زيارة ترامب بأسابيع، وتحديدًا في اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت بالرئيس الإماراتي محمد بن زايد، بحضور مستشار الأمن القومي طحنون بن زايد، والمستشار الإماراتي المقرّب علي راشد النعيمي.
خلال تلك الجلسة التي سُرّبت أجزاء من محاضرها، تم الاتفاق على تفعيل شبكة النفوذ الإسرائيلية في واشنطن، وفي مقدمتها لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC)، مقابل ملايين الدولارات كدعم غير معلن لمراكز أبحاث ووسائل إعلامية وشركات علاقات عامة تعمل لصالح الإمارات في الولايات المتحدة وأوروبا.
الاتفاق نصّ على ثلاثة أهداف واضحة:
تخفيف الانتقادات الغربية لسجل حقوق الإنسان الإماراتي، خاصة في ظل التقارير المتزايدة عن قمع الحريات وسوء معاملة العمالة الوافدة.
الترويج لسردية “السلام والاستقرار” الإماراتية في سياق اتفاقات أبراهام، وإظهار أبوظبي كقوة توازن ضد الفوضى الإقليمية.
تبييض صورة قوات الدعم السريع، عبر إظهارها كقوة أمر واقع تحارب الإرهاب وتحمي المدنيين، مقابل تصوير الجيش السوداني كأداة قمع إسلامية تستخدم الكيماوي وتعرقل الانتقال السياسي.
أدوات النفوذ: إعلام، لوبيات، تقارير موجهة
بدأت الحملة فعليًا مع صدور تقارير من مراكز بحث محسوبة على اللوبي الصهيوني مثل “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” و”معهد واشنطن”، ركّزت على ما سموه “تغلغل عناصر إسلامية متشددة” في الجيش السوداني، وحذرت من عودة الخرطوم إلى محور إيران وتركيا.
وفي المقابل، رُوّج للدعم السريع كقوة محلية تحظى بدعم إماراتي “من أجل الاستقرار”، دون ذكر للفظائع التي ارتكبتها في دارفور.
كما نُشرت مقالات رأي في صحف أمريكية بارزة، تتبنى السردية الجديدة، وتتحدث بلغة غامضة عن “مسؤولية مزدوجة” في الحرب، وتحذر من “مبالغة” في تحميل المسؤولية لحميدتي، وتتهم البرهان باستخدام وسائل محظورة دوليًا.
ترافق ذلك مع تراجع حاد في التصريحات الرسمية الأمريكية عن دور الإمارات. فبعد أن كانت وزارة الخارجية تُلوّح بوقف التعاون الدفاعي مع أبوظبي، عادت لتؤكد على “الشراكة الاستراتيجية العميقة” معها، وتشيد بدورها في “الجهود الإنسانية” في السودان.
الإمارات تشتري النفوذ… وتغيّر الوقائع
ليس جديدًا أن تستثمر الإمارات في النفوذ السياسي والإعلامي الغربي، لكن الجديد هذه المرة هو توظيف هذا النفوذ لتبييض جرائم حرب حية تُرتكب على مرأى العالم.
فالدعم العسكري واللوجستي الذي توفره أبوظبي لحميدتي وقواته، هو عنصر حاسم في استمرار الحرب، وفق تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية. ومع ذلك، استطاع بن زايد أن يقلب المعادلة: من متهم مباشر بالإبادة، إلى وسيط “سلام”، بل وحليف في مواجهة “الإرهاب”.
في هذا السياق، يلعب اللوبي الصهيوني دورًا محوريًا. فإسرائيل، التي تربطها مصالح أمنية واقتصادية مع الإمارات، ترى في تحالفها مع أبوظبي ورقة استراتيجية لكسر النفوذ الإيراني والتركي في أفريقيا.
وتدرك تل أبيب أن تصوير الجيش السوداني كأداة لـ”الإسلام السياسي”، يخدم مصالحها في الداخل الأمريكي، خاصة لدى الجمهوريين المتشددين والمسيحيين الإنجيليين.
من الخرطوم إلى واشنطن… عبر تل أبيب
إن ما جرى في مايو 2025 ليس مجرد تبدل دبلوماسي، بل هو نموذج فاضح لكيفية إعادة صياغة السياسات الأمريكية عبر المال والنفوذ.
إذ أن بينيت لم يكن مجرد وسيط، بل مهندس حملة ضغط متعددة المسارات، استغلت قنوات النفوذ الإسرائيلية في واشنطن، وموّلتها الإمارات بسخاء، للحصول على ما هو أكثر من تبييض السمعة: إعفاء كامل من المسؤولية عن دعم حرب إبادة في السودان.
في نهاية المطاف، لم تتغير الوقائع على الأرض: الدعم السريع لا يزال يهاجم المدن ويهجر السكان، والإمارات لا تزال تزود الميليشيا بالسلاح عبر طرق التفافية.
لكن ما تغير هو الرواية، والاتهام، والخطاب السياسي في واشنطن. وكل ذلك بثمن، دفعته أبوظبي، وتولّت تل أبيب إخراجه، فخرج حميدتي من لائحة المجرمين، ودخل البرهان إلى لائحة العقوبات.