الرئيسية - أخبار محلية - من قلب الدولة إلى هامش المشهد: عائلة علي عبدالله صالح بين النفوذ والأفول

من قلب الدولة إلى هامش المشهد: عائلة علي عبدالله صالح بين النفوذ والأفول

الساعة 10:14 مساءً (هنا عدن/ خاص )


بقلم: علي الحداد

في التجربة اليمنية الحديثة، لم تكن عائلة علي عبدالله صالح مجرّد امتداد اجتماعي لرئيس حكم البلاد لثلاثة عقود، بل تحوّلت إلى بنية سياسية متكاملة داخل الدولة. لم تكن العائلة ملحقة بالحكم، بل شكّلت جزءًا جوهريًا من آلياته، حتى بدا حضورها كيانًا موازيًا يتغلغل في مفاصل الدولة، معتمدًا على شبكة من الولاءات الشخصية، وروابط الدم، والمصالح المتشابكة.



منذ مطلع الثمانينيات، بدأ صالح في تشييد دولته العائلية داخل الدولة الرسمية. دفع بأقاربه – من أبناء الإخوة والعمومة إلى الأصهار – لتولي مواقع حساسة في الجيش، والأمن، والإعلام، وحتى في الاقتصاد. هذا التغلغل العائلي لم يكن اعتباطيًا، بل جزءًا من هندسة دقيقة تهدف إلى احتكار القرار السياسي، وتحويل الدولة إلى منظومة ولاء تتمحور حول الشخص لا المؤسسة. في قلب هذه المنظومة، برزت مؤسسة الحرس الجمهوري التي سلّم قيادتها لنجله أحمد، في ما بدا خطوة مبكّرة لتدشين مشروع التوريث.

ومع صعود أحمد علي إلى الواجهة، تجسّد مشروع “الجمهورية الوراثية” بشكل أوضح. غير أن اليمن، على عكس بعض الأنظمة العربية المجاورة، لم تكن بيئتها مهيأة لتقبّل هذا النموذج. فتصاعد الغضب الشعبي، وتزايدت التناقضات داخل النظام، حتى جاءت ثورة 2011 كحدث مفصلي فجّر تلك التراكمات. ورغم محاولات الرئيس التماسك، اضطر لتسليم السلطة، وسط اعتقاد واسع بأن نفوذ العائلة سيتلاشى. لكنّها قاومت، مدفوعة بما تبقّى من شبكات مصالح وثروات راكمتها طوال العقود الماضية.

بعد 2011، بقيت شخصيات العائلة في المشهد، ولكن دون رؤية موحّدة أو مشروع سياسي جامع. أحمد علي اتخذ من منصبه سفيرًا في الإمارات ملاذًا رمزيًا، وعمار تحرّك في الظل، ويحيى دخل مرحلة خفوت تدريجي. ظل المشهد مفتقدًا لقيادة واضحة، فيما بدت الجماهير الموالية في حيرة، تبحث عن بديل دون أن تجده. وجاء مقتل علي عبدالله صالح على يد الحوثيين في ديسمبر 2017 ليشكّل لحظة الانهيار الكبرى، حيث انهار ما تبقى من المشروع العائلي مع غياب الشخصية المحورية التي كانت تمسك بخيوطه.

أما حزب المؤتمر الشعبي العام، الذي كان الواجهة السياسية للعائلة، فقد دخل بدوره نفق التفكك. تعددت القيادات، وتشظّت الولاءات، وفقد الحزب تماسكه، وتحول إلى مظلة متنازع عليها. عجز أنصاره عن إيجاد خطاب جامع يواكب التحولات، وبقيت قياداته أسيرة لغة الأمجاد، غير قادرة على الخروج من عباءة الماضي.

وفي هذا السياق العام من الأفول، برز اللواء طارق محمد عبدالله صالح كاستثناء نسبي. فخلافًا لبقية أفراد العائلة الذين تردّدوا بين العزلة والمحاولات الخجولة، اختار طارق أن يتحرك كفاعل عسكري وسياسي يمتلك أوراقًا ميدانية. يقود اليوم “قوات المقاومة الوطنية” في الساحل الغربي، ويشغل منصب نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي، ما يمنحه موقعًا رسميًا وميدانيًا متقدّمًا. قواته تُعد من بين أكثر التشكيلات انضباطًا وفعالية، ما يمنحه ثقلًا تفاوضيًا لا يُستهان به.

خطابه السياسي أيضًا يتسم بتوازن نسبي، إذ يركّز على استعادة الدولة ويبتعد عن لغة الثأر أو العزلة، ويستفيد من دعم إقليمي، خصوصًا من دولة الإمارات، ما يوفّر له غطاءً سياسيًا يعزز من فرص حضوره. لكنه رغم ذلك يواجه تحديات كبيرة، فصورته لا تزال مرتبطة بالنظام السابق، وهو يتحرك في مشهد سياسي معقّد لا يكفي فيه الظهور العسكري وحده. يحتاج طارق إلى توسيع شرعيته السياسية، وبناء تحالفات مدنية، وتقديم مشروع وطني يتجاوز إرث العائلة.

لقد كان ارتهان العائلة للفرد، لا للمؤسسة، أحد أبرز عوامل ضعفها بعد غياب “الرئيس المؤسس”. فبغيابه، تلاشت التماسكات التي كانت تقوم على شخصه، لا على بناء مؤسسي راسخ. بقي الخطاب يدور في دائرة الحنين لا المستقبل، وبدا أن العائلة لم تستوعب المتغيرات المتسارعة التي تعصف بالبلاد والإقليم. ومع سقوط المؤتمر الشعبي العام كحاضنة، فقدت العائلة آخر أدواتها للعب دور مركزي.

ورغم أن عائلة صالح ككيان سياسي متماسك قد فقدت قدرتها على البقاء، فإن بعض رموزها – وفي مقدمتهم طارق صالح – يسعون إلى إعادة التموضع، بشكل فردي لا عائلي، يرتكز على الفعل السياسي لا الإرث الشخصي. مدى نجاح هذا المسار سيظل مرهونًا بقدرتهم على تجاوز رمزية الاسم، وتحويل القوة العسكرية إلى مشروع وطني جامع، يُقنع اليمنيين أن المستقبل لا يُبنى فقط على أنقاض الماضي، بل بتجاوزه .