بقلم: علي الحداد
في خضم التحولات الجيوسياسية المتسارعة وتزايد مسارات التقارب بين بعض الدول العربية وإسرائيل، تبرز إشكالية بنيوية لا يمكن القفز عليها: هل من المنطقي أن تسبق محاولات التطبيع مع “الآخر”، إصلاح العلاقات داخل المنظومة العربية والإسلامية ذاتها؟ وهل يُعقَل أن يقوم سلام خارجي على أرضية داخلية مفككة، تفتقر إلى أدنى مستويات التماسك؟
الواقع العربي والإسلامي الراهن، بما فيه من خلافات مستدامة وتحالفات متضاربة ومشاريع وطنية متباعدة، لا يؤهل المنطقة لأي مسار تفاوضي ناجح أو مبادرة ذات وزن. فالأطراف التي تفتقد إلى الوحدة والاتساق لا تملك قدرة التأثير أو فرض شروط عادلة. من هنا، يصبح التصالح العربي-العربي، والإسلامي-الإسلامي، شرطًا استراتيجيًا وأساسًا لا يمكن تجاوزه لأي انخراط مسؤول في المعادلة الإقليمية والدولية.
فلسطين: المعيار الأخلاقي والاختبار السياسي
تظل القضية الفلسطينية حجر الزاوية في ضمير الأمة وميزان صدقها السياسي والأخلاقي. وأي مسار تطبيعي لا يضع في صلب شروطه الاعتراف الصريح بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، هو مسار فاقد للشرعية، يكرّس الظلم بدل أن يزيله، ويمنح الاحتلال مكافأة مجانية على حساب العدالة.
إن السلام لا يمكن أن يُنتج في فراغ، ولا يُفرض بالقوة أو الإملاء، بل يُبنى على أساس إجماع عربي وإسلامي حقيقي، يسبق أي خطوة تجاه إسرائيل، ويستند إلى جبهة داخلية موحّدة تعيد للقضية الفلسطينية مكانتها، ولصوت الأمة هيبته.
الوحدة العربية والإسلامية: ضرورة مصيرية لا خيار ظرفي
لا مستقبل مستقرًا للمنطقة دون منظومة عربية وإسلامية متماسكة، تستعيد مؤسساتها الجامعة من رماد الخلاف، وتفعّل أدوارها لا كديكور سياسي، بل كأدوات سيادية لصياغة موقف جماعي يحترم خصوصيات كل دولة دون التفريط بالمصير المشترك. هذه المنظومة يجب أن تنطلق من أربعة مرتكزات واضحة:
1. تصفير الخلافات البينية على أساس الاحترام المتبادل وسيادة القرار الوطني.
2. بناء تكامل إقليمي فعّال يعزّز مناعة الدول ويحدّ من التبعية الخارجية.
3. بلورة موقف سياسي موحّد تجاه إسرائيل، يربط أي تقارب بإقامة الدولة الفلسطينية كحق لا كتنازل.
4. تأهيل الشارع العربي والإسلامي لمشروع تضامن جامع يعيد الثقة بين الشعوب ونخبها، ويجسر الهوة بين المواطن ومؤسساته.
دعوة صريحة للمؤسسات الإقليمية: نحو موقف موحد وشجاع
تقع على عاتق جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، مسؤولية تاريخية مضاعفة لا تقف عند حدود التنسيق أو إصدار البيانات، بل تتطلب بلورة موقف جماعي صلب، قادر على إعادة صياغة التوازنات، وترميم الثقة بين الشعوب ومؤسساتها.
فهذه الكيانات، بما تمثله من عمق شعبي ورصيد تاريخي، مطالبة اليوم بالخروج من حالة الترقب والتباعد، إلى ساحة الفعل الإقليمي المؤثر. كما أن القوى المحورية في العالم العربي والإسلامي، مدعوة إلى تحمل دور استثنائي في إطلاق مشروع تضامن فعلي، يتجاوز الحسابات الضيقة إلى منطق الشراكة الواسعة، ويعيد الاعتبار لفلسطين كقضية مركزية لا يمكن تجاوزها.
إن اللحظة الراهنة لا تحتمل مزيدًا من التردد أو الانقسام. والمطلوب ليس بيانات متكررة، بل إرادة سياسية مشتركة تنبع من الداخل، وتُعيد تعريف مفهوم السلام، لا بوصفه منحة، بل استحقاقًا يُنتزع من موقع القوة والوحدة والشرعية التاريخية.
خاتمة: لا سلام دون قوة… ولا قوة دون وحدة
السلام لا يُمنح من موقع الضعف والانقسام، بل يُنتزع من موقع الاتحاد والشرعية. وتلك القوة لن تكون متاحة إلا حين تتصالح الأمة مع ذاتها، وتعيد بناء جبهتها الداخلية، وتُعلن للعالم أن وحدتها هي ضمان أمنها، وأن عدالة فلسطين هي شرطها لأي تفاوض أو تقارب.
وحدة الأمة وعدالة فلسطين… مفتاح أي سلام حقيقي، لا استثناء فيه ولا مساومة.